فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ هَذَا الْعِلْمُ لَا يُوجِبُ هَذَا الْمَيْلَ إِلَّا عِنْدَ خُلُوِّ الْقَلْبِ عَنْ سَائِرِ الشَّوَاغِلِ، فَإِذَا غَلَبَتْ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فِي الْوَلَدِ غَرَضًا صَحِيحًا لَا عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَاقِعَ عَلَى نِيَّةِ الْوَلَدِ بَلْ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عَلَى نِيَّةِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ إِذِ النِّيَّةُ هِيَ إِجَابَةُ الْبَاعِثِ وَلَا بَاعِثَ إِلَّا الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ يَنْوِي الْوَلَدَ؟ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ هَذَا الْمَيْلِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُعَلَّقٌ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُمْ إِجَابَةً لِبَاعِثِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَّقِي النَّارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِبَاعِثِ الرَّجَاءِ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالْعَامِلُ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ عَامِلٌ لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، كَالْأَجِيرِ السُّوءِ وَدَرَجَتُهُ دَرَجَةُ الْبُلْهِ، وَأَمَّا عِبَادَةُ ذَوِي الْأَلْبَابِ فَلَا تُجَاوِزُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْفِكْرَ فِيهِ حُبًّا لِجَلَالِهِ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ مُؤَكِّدَاتٌ لَهُ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَثَوَابُ النَّاسِ بِقَدْرِ نِيَّاتِهِمْ فَلَا جَرَمَ صَارَ الْمُقَرَّبُونَ مُتَنَعِّمِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنِسْبَةُ شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ إِلَى شَرَفِ الِالْتِذَاذِ بِهَذَا الْمَقَامِ كَنِسْبَةِ نعيم الجنة إلى وجهه الكريم.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١١٣]]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَهُمْ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَصَّلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ قَوْلَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي الْآخَرِ، وَكَيْفَ يُنْكِرُ كُلُّ طَائِفَةٍ دِينَ الْأُخْرَى، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أَيْ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَقَلُّ مِنْ لا شيء، ونظيره قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ [الْمَائِدَةِ: ٦٨] ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا يُثْبِتَانِ الصَّانِعَ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ قَوْلًا بَاطِلًا يُحْبِطُ ثَوَابَ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّهُمْ مَا أَتَوْا بِذَلِكَ الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْعَامُّ بِالْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فيه، وَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِبَابِ النُّبُوَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَتَنَاظَرُوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَهُمْ: نَحْوَهُ وَكَفَرُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّوْرَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الظَّاهِرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ الْيَهُودِ وَكُلِّ النَّصَارَى بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَجِبُ لِمَا نُقِلَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ/ أَنَّ يَهُودِيًّا خَاطَبَ النَّصَارَى بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَنْ لَا يُرَادَ بِالْآيَةِ سِوَاهُ، إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَوْلُهُ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْوَجْهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَمَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ مُنْذُ كَانُوا فَهَذَا قَوْلُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute