للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ كَامِلٌ لِذَاتِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَحْدُثَ له كَمَالٍ لَمْ تَكُنْ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ نُقْصَانٌ كَانَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَفْوُهُ إِلَّا رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي يَعْنِي هُوَ الَّذِي إِذَا غَفَرَ كَانَ غُفْرَانُهُ لِي وَلِأَجْلِي لَا لِأَجْلِ أَمْرٍ عَائِدٍ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ قَالَ خَلَقْتَنِي لَا لِي فَإِنَّكَ حِينَ خَلَقْتَنِي مَا كُنْتُ مَوْجُودًا وَإِذَا لَمْ أَكُنْ مَوْجُودًا اسْتَحَالَ تَحْصِيلُ شَيْءٍ لِأَجْلِي ثُمَّ مَعَ هَذَا فَأَنْتَ خَلَقْتَنِي، أَمَّا لَوْ عَفَوْتَ كَانَ ذَلِكَ الْعَفْوُ لَأَجْلِي، فَلَمَّا خَلَقْتَنِي أَوَّلًا مَعَ أَنِّي كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ فَلِأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَعْفُوَ عَنِّي حَالَ مَا أَكُونُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ كَانَ أَوْلَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لِشِدَّةِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ شَدِيدَ الْفِرَارِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْوَسَائِطِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا» فَهَهُنَا قَالَ:

أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أَيْ لِمُجَرَّدِ عُبُودِيَّتِي لَكَ وَاحْتِيَاجِي إِلَيْكَ تَغْفِرُ لِي خَطِيئَتِي لَا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)

[البحث الأول] اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَنَاءَهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دُعَاءَهُ وَمَسْأَلَتَهُ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَكُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهَا بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَالِانْجِذَابُ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشَدَّ كَانَتْ مُشَاكَلَتُهَا لِلْمَلَائِكَةِ أَتَمَّ، فَكَانَتْ أَقْوَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَكُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهَا بِلَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتِغْرَاقُهَا فِي ظُلُمَاتِ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ أَشَدَّ كَانَتْ مُشَاكَلَتُهَا لِلْبَهَائِمِ أَشَدَّ فَكَانَتْ أَكْثَرَ عَجْزًا وَضَعْفًا وَأَقَلَّ تَأْثِيرًا فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالدُّعَاءِ يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ ثَنَاءَ اللَّه تَعَالَى وَذِكْرَ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ حَتَّى أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَحَبَّتِهِ وَيَصِيرُ قَرِيبَ الْمُشَاكَلَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُشَاكَلَةِ قُوَّةٌ إِلَهِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ فَيَصِيرُ مَبْدَأً لِحُدُوثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ فَهَذَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ مَاهِيَّةِ الدُّعَاءِ وَظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الثَّنَاءِ، لَا سِيَّمَا وَيُرْوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ مُشْتَغِلًا بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٧] ثُمَّ ذَكَرَ الثَّنَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا حِينَ مَا خَلَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ تَعْلِيمَ الشَّرْعِ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>