للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْأُمُورِ الَّتِي طَلَبَهَا فِي الدُّعَاءِ وَهِيَ مَطَالِيبُ:

الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَلَقَدْ أَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ قَالَ:

وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠] وَفِيهِ مَطَالِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فَلَوْ طَلَبَ النُّبُوَّةَ لَكَانَتِ النُّبُوَّةُ الْمَطْلُوبَةُ، إِمَّا عَيْنَ النُّبُوَّةِ الْحَاصِلَةَ أَوْ غَيْرَهَا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ مَا هُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَذَلِكَ بِإِدْرَاكِ الْحَقِّ وَمِنْ قَوْلِهِ/ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِالْخَيْرِ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ:

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ لِمَا أَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالشَّرَفِ وَبِالذَّاتِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْخَيْرِ وَعَكْسُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ الرُّوحِ وَالْعَمَلَ صِفَةُ الْبَدَنِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّوحُ أَشْرَفَ مِنَ الْبَدَنِ كَانَ الْعِلْمُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ بِالْحُكْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا إِذَا اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ صُوَرَ الْمَاهِيَّاتِ، ثُمَّ نَسَبَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ، وَتِلْكَ النِّسْبَةُ وَهِيَ الْحُكْمُ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُطَابِقَةً لِلنِّسَبِ الْخَارِجِيَّةِ كَانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ التَّغَيُّرِ فَكَانَتْ مُسْتَحْكِمَةً قَوِيَّةً، فَمِثْلُ هَذَا الْإِدْرَاكِ يُسَمَّى حكمة حكما، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ»

وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَهُوَ كَوْنُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ رَذِيلَتِيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَفْرِيطٌ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ فَالصَّلَاحُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالِاعْتِدَالِ، وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِدَالُ الْحَقِيقِيُّ شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ الْبَتَّةَ وَالْأَفْكَارُ الْبَشَرِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ قَاصِرَةً عَلَى إِدْرَاكِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لَا جَرَمَ لَا يَنْفَكُّ الْبَشَرُ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ وَإِنْ قَلَّ، إِلَّا أَنَّ خُرُوجَ الْمُقَرَّبِينَ عَنْهُ يَكُونُ فِي الْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يُحَسُّ بِهِ وَخُرُوجُ الْعُصَاةِ عَنْهُ يَكُونُ مُتَفَاحِشًا جِدًّا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا تَحْقِيقُ مَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَظَهَرَ احْتِيَاجُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

الْمَطْلَبُ الثَّانِي: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحُكْمِ الْعِلْمُ، ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّه أَنْ يُعْطِيَهُ الْعِلْمَ باللَّه تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ:

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ العبد صالحا ليس إلا بخلق اللَّه وَحَمْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْأَلْطَافِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ كُلَّ مَا فِي قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَهُ فَلَوْ صَرَفْنَا الدُّعَاءَ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ فَاسِدٌ.

الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ فِي الدُّعَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ باللَّه أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْعِلْمَ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى شَاغِلٌ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ باللَّه كَانَ هَذَا السُّؤَالُ طَلَبًا لِمَا يَشْغَلُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ باللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَا كَمَالَ فَوْقَ ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ فَإِذَنِ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الدُّعَاءِ هُوَ الْعِلْمُ باللَّه، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ باللَّه تَعَالَى الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>