وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاءِ: ٩٥] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ كَيْفَ كَانَ وَمِمَّنْ كَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيمَانُ الْآبَاءِ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ تُنْبِئُ عَنْ تَقْيِيدِ وَعَدَمِ كَوْنِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَ القائل ماء الشجر وماء الزمان يَصِحُّ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَا يَصِحُّ فَقَوْلُهُ بِإِيمانٍ يُوهِمُ أَنَّهُ إِيمَانٌ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٥] حَيْثُ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ الْمُضَافَ وَلَمْ يَكُنْ إِيمَانًا، فَقَطَعَ الْإِضَافَةَ مَعَ إِرَادَتِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ وَعَوَّضَ التَّنْوِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْأَمَانَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا إِيمَانُ الْآبَاءِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا عَوْدٌ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُمْ مُرْتَهِنُونَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ مُرْتَهِنًا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: ٣٨، ٣٩] وهو قول مجاهد وقال الزَّمَخْشَرِيُّ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مَرْهُونٍ عِنْدَ اللَّهِ بِالْكَسْبِ فَإِنْ كَسَبَ خَيْرًا فَكَّ رَقَبَتَهُ وَإِلَّا أُرْبِقَ بِالرَّهْنِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهِينُ فَعَيْلًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَاهِنٌ أَيْ دَائِمٌ، إِنْ أَحْسَنَ فَفِي الْجَنَّةِ مُؤَبَّدًا، وَإِنْ أَسَاءَ فَفِي النَّارِ مُخَلَّدًا، / وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا دَوَامَ الْأَعْمَالِ بِدَوَامِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى إِلَّا فِي جَوْهَرٍ وَلَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ دَوَامُ الْأَعْيَانِ بِدَوَامِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْقِي أَعْمَالَهُمْ لِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَالْبَاقِي يبقى مع عامله. ثم قال تعالى:
[[سورة الطور (٥٢) : آية ٢٢]]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢)
أَيْ زِدْنَاهُمْ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، أَمَّا الْمَأْكُولُ فَالْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ، وَأَمَّا الْمَشْرُوبُ فَالْكَأْسُ الَّذِي يَتَنَازَعُونَ فِيهَا، وَفِي تَفْسِيرِهَا لَطَائِفُ:
اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: لَمَّا قَالَ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم [الطُّورِ: ٢١] بَيَّنَ الزِّيَادَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الدُّنْيَا إِذَا زَادُوا فِي حَقِّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِمْ يَزِيدُونَ فِي أَقْدَارِ أَخْبَازِهِمْ وَأَقْطَاعِهِمْ، وَاخْتَارَ مِنَ الْمَأْكُولِ أَرْفَعَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ الْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَجَمَعَ أَوْصَافًا حَسَنَةً فِي قَوْلِهِ مِمَّا يَشْتَهُونَ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ نَوْعًا فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ غَيْرَ مُشْتَهًى عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ كُلُّ أَحَدٍ يُعْطَى مَا يَشْتَهِي، فَإِنْ قِيلَ الِاشْتِهَاءُ كَالْجُوعِ وَفِيهِ نَوْعُ أَلَمٍ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الِاشْتِهَاءُ بِهِ اللَّذَّةُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ فِي الِاشْتِهَاءِ بِدُونِ الْمُشْتَهَى حَتَّى يَتَأَلَّمَ، بَلِ الْمُشْتَهَى حَاصِلٌ مَعَ الشَّهْوَةِ وَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَأَلَّمُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِاشْتِهَاءٍ صَادِقٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمُشْتَهَى، وَإِمَّا بِحُصُولِ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عِنْدَهُ وَسُقُوطِ شَهْوَتِهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا قَالَ: وَما أَلَتْناهُمْ وَنَفْيُ النُّقْصَانِ يَصْدُقُ بِحُصُولِ الْمُسَاوِي، فَقَالَ لَيْسَ عَدَمُ النُّقْصَانِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُسَاوِي، بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْإِمْدَادُ، فَإِنْ قِيلَ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُونَ لِخَاصَّةِ اللَّهِ بِاللَّهِ شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، نَقُولُ هَذَا عَلَى الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٢٤] وَقَالَ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطُّورِ: ١٦] وَأَمَّا عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute