للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والوجه الثالث: في التمسك بهذه الآية وقوله: وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وَلَيْسَ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي أَيِّ الْمَعَانِي، وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ الْخَالِقِيَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْوَاحِدَ فِي الْخَالِقِيَّةِ، الْقَهَّارَ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا.

المسألة الثَّانِيَةُ: زَعَمَ جَهْمٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَيْسَ إِلَّا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا لَوَجَبَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَقَلَّ مِنَ الْبَاقِي وأخس منه كما إذا قال: أكلت هذا الرُّمَّانَةَ مَعَ أَنَّهُ سَقَطَتْ مِنْهَا حَبَّاتٌ مَا أَكَلَهَا، وَهَاهُنَا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ وَأَشْرَفُهَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ذِكْرُ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ مَعَ كَوْنِ الحكم مَخْصُوصًا فِي حَقِّهِ؟

وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] وَالْمَعْنَى: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ فَإِنَّهَا مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهَا، فَالْبَارِي تَعَالَى مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ.

وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يَتَنَاوَلُ أَخَسَّ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرًا بِمَعْنًى حَسَنٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْأَصْحَابُ تَمَسَّكُوا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: ١٩] .

وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سُؤَالٌ مَتْرُوكُ الْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: ١٩] .

وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سُؤَالٌ مَتْرُوكُ الْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ.

المسألة الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ لِذَاتِهِ لَا بِالْعِلْمِ وَقَادِرٌ لِذَاتِهِ لَا بِالْقُدْرَةِ.

قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ، لَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ بِخَلْقِ اللَّهِ أَوْ لَا بِخَلْقِهِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتَ حَكَمْنَا بِدُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي حَقِّ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِيمَا سِوَى الذَّاتِ عَلَى الْأَصْلِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى ذَاتِهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ لَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ.

وَالْجَوَابُ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ، إِلَّا أَنَّا نُخَصِّصُهَا فِي حَقِّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ.

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٧ الى ١٩]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>