ثُمَّ إِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي رُءُوسِ الْآيَاتِ/ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَلَوْ قِيلَ: فَيَعْتَذِرُوا لَمْ تَتَوَافَقِ الْآيَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَرِ: ٦] فَثَقَّلَ لِأَنَّ آيَاتِهَا مُثَقَّلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطَّلَاقِ: ٨] وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَثْقِيلِ الْأَوَّلِ وَتَخْفِيفِ الثَّانِي لِيُوَافِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا قبله.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْ بَابِ التَّعْذِيبِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّخْجِيلِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقَعُ فِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْحُكُومَةِ أَحَدُهُمَا: مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّبِّ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْفَصْلِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عَلَى عَمَلِهِ وَكَذَا فِي الْعِقَابِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْفَصْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَنْ تُقَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا حَتَّى يَعْتَرِفُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي عَلَى ذَاكَ أَنَّهُ ظَلَمَنِي وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَتَلَنِي فَهَهُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَقَوْلُهُ: جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ كَلَامٌ مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ فَصْلِ حُكُومَاتِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْضَارِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْحُقُوقَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالْكَيْدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهَهُنَا إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ فَافْعَلُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحِيَلَ مُنْقَطِعَةٌ وَالتَّلْبِيسَاتِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نِهَايَةٌ فِي التَّخْجِيلِ وَالتَّقْرِيعِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ الشَّدِيدَةَ وَالنَّفْرَةَ الْعَظِيمَةَ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا قَائِمَةً بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَصَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ بِحَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ كَانَ أَسْهَلَ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَرَى لِلْمُؤْمِنِ دَوْلَةً وَقُوَّةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ عَلَى الْكُفَّارِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ حَالَ مَا يرى نفسه في غاية الذال وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، وَيَرَى خَصْمَهُ فِي نِهَايَةِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، تَتَضَاعَفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute