لِمَنْ ذَكَرَ كَلَامًا غَيْرَ مُفِيدٍ: مَا قُلْتَ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ وَذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ: آتِيكَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَالْمَعْنَى سَاعَةَ يَقْدَمُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْقُدُومَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا يَمْتَدُّ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنْطِقُونَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لَا فِي الْأَنْوَاعِ وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِالشَّرِّ وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ بِالْخَيْرِ، وَتَارَةً تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ/ بَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَتَقُولُ:
فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْمُوَقَّتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَفْهُومُ لَا يَنْطِقُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ عَدَمُ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ النُّطْقِ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَيَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ: لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِعُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي وَقْتِ السُّؤَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى صِحَّةِ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْطِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَنَطَقَ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ يَحْنَثُ؟ قُلْنَا: مَبْنِيُّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَحْثٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ فَيَنْقَادُونَ وَيَذْهَبُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَاتِ فَمَا كَانُوا يَلْتَفِتُونَ. أَمَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ [فقد] صاروا منقادين مطيعين فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْخُصُومَةَ فِي الدُّنْيَا لَمَا احْتَاجُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى هَذَا الِانْقِيَادِ الشَّاقِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ مُتَقَيِّدٌ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي هَذَا الْعَمَلِ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِسَبَبِ مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ: أَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَوْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ هَذَا الْمُطْلَقُ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ، فكذا هاهنا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ ذِكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عُذْرٌ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا خَيَالًا فَاسِدًا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعُذْرَ الْفَاسِدَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَائِكَ وَعِلْمِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ فَلِمَ تُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا عُذْرٌ فَاسِدٌ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: ١٦٥] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: ١٣٤] وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ، أَنَّ لَهُ عُذْرًا، فَهَبْ أَنَّ عُذْرَهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَاسِدٌ فَلِمَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، ثُمَّ يُبَيَّنُ لَهُ فَسَادَهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات: ٦] كَانَ إِعَادَتُهَا غَيْرَ مُفِيدَةٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فَاطِرٍ: ٣٦] الْجَوَابُ: الفاء هاهنا لِلنَّسَقِ فَقَطْ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ جَزَاءً أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ يَعْتَذِرُونَ بِالْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ مَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الِاعْتِذَارِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا مُنِعُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا لَمَّا رُفِعَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الْعُذْرِ وَهُمْ أَيْضًا لَمْ يَعْتَذِرُوا لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْإِذْنِ بَلْ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعُذْرِ فِي نَفْسِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute