للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قَالُوا: الْمُحْسِنُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ. فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُحْسِنَ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْعِلْمُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَحْصُلَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ السُّؤَالَ الَّذِي ذَكَرُوهُ سَاقِطٌ وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مُقْتَضَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَمَا السَّبَبُ فِي حَذْفِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ؟ وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّحْمَةَ تَأْنِيثُهَا/ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ: قَرِيبٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغُفْرَانَ وَالْعَفْوَ وَالْإِنْعَامَ بمعنى واحد فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِمَعْنَى إِنْعَامُ اللَّهِ قَرِيبٌ وَثَوَابُ اللَّهِ قَرِيبٌ فَأَجْرَى حُكْمَ أَحَدِ اللفظين على الآخر. الثالث: قال أنضر بْنُ شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ وَمِنْ حَقِّ الْمَصَادِرِ التذكير كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة: ٥ ا ٢] فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ أُرِيدَ بِهَا الْوَعْظُ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ ضُمِّنَا ... قَبْرًا بِمَرْوَ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ

قِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمَاحَةِ السَّخَاءَ وَبِالْمُرُوءَةِ الْكَرَمَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ذَاتُ مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمُحْسِنِينَ كَمَا قالوا: حائض ولا بن تامر أَيْ ذَاتُ حَيْضٍ وَلَبَنٍ وَتَمْرٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَخْبَرَنِي الْعَرُوضِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ عَنِ الْحَرَّانِيِّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ قَالَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هو قريب من وَهُمَا قَرِيبٌ مِنِّي وَهُمْ قَرِيبٌ مِنِّي وَهِيَ قَرِيبٌ مِنِّي لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ هُوَ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنِّي وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى قَرَبَتْ وَبَعُدَتْ بِنَفْسِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ هَذَا الْقُرْبِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ قُرْبًا مِنَ الْآخِرَةِ وَبُعْدًا مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا كَالْمَاضِي وَالْآخِرَةَ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَالْإِنْسَانُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ يَزْدَادُ بُعْدًا عَنِ الْمَاضِي وَقُرْبًا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ ... وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ

وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الدُّنْيَا تَزْدَادُ بُعْدًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَنَّ الْآخِرَةَ تَزْدَادُ قُرْبًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَثَبَتَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لا جرم ذكر الله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِنَاءً عَلَى هَذَا التأويل.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالَ العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ مِنْ بَعْضِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>