للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مبتدأ ويَمُرُّونَ عَلَيْهَا خَبَرُهُ وَقَرَأَ السُّدِّيُّ وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: يَمُرُّونَ عَلَيْها بِقَوْلِنَا يَطُوفُونَهَا، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه وَالْأَرْضُ يَمْشُونَ عَلَيْهَا بِرَفْعِ الْأَرْضِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّه بِخَلْقِهِ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَلْبِيَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا: اللَّه رَبُّنَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والملائكة بَنَاتُهُ فَلَمْ يُوَحِّدُوا، بَلْ أَشْرَكُوا، وَقَالَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَالْأَصْنَامُ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ، وقالت اليهود: ربنا اللَّه وحده وعزيز ابْنُ اللَّه، وَقَالَتِ النَّصَارَى: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه، وَقَالَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَهَؤُلَاءِ أَرْبَابُنَا، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ رَبُّنَا اللَّه وَحْدَهُ وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ، وَاحْتَجَّتِ الْكَرَّامِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَجَوَابُهُ مَعْلُومٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَيْ عُقُوبَةٌ تَغْشَاهُمْ وَتَنْبَسِطُ عَلَيْهِمْ وَتَغْمُرُهُمْ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً. وبغتة نُصِبَ عَلَى الْحَالِ يُقَالُ: بَغَتَهُمُ الْأَمْرُ بَغْتًا وَبَغْتَةً إِذَا فَاجَأَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّعُوا وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: بَغْتَةً.

[[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]]

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا سَبِيلِي وَسُنَّتِي وَمِنْهَاجِي، وَسُمِّيَ الدِّينُ سَبِيلًا لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: ١٢٥] .

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الطَّرِيقُ، وَشَبَّهُوا الْمُعْتَقَدَاتِ بِهَا لَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ عَلَيْهَا إلى الجنة ادعو اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي إِلَى سِيرَتِي وَطَرِيقَتِي وَسِيرَةِ أَتْبَاعِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرَ الْحُجَّةَ وَأَجَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ فَقَدْ دَعَا بِمِقْدَارِ وُسْعِهِ إِلَى اللَّه وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِمَّا يَقُولُ وَعَلَى هُدًى وَيَقِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَحْضُ الْغُرُورِ

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللَّه مِنْ حَيْثُ يَحْفَظُونَ لِمَا تَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ»

وَقِيلَ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَقَوْلُهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: هذِهِ سَبِيلِي أَيْ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي وَقُلْ سُبْحَانَ اللَّه تَنْزِيهًا للَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مع اللَّه ضدا وندا وكفوا وو لدا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِرْفَةَ الْكَلَامِ وَعِلْمَ الْأُصُولِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّه مَا بَعَثَهُمْ إِلَى الْخَلْقِ إِلَّا لِأَجْلِهَا.

[[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]]

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>