للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَبَالُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ مِنَ الثِّقْلِ وَالْمَكْرُوهِ. يُقَالُ: مَرْعًى وَبِيلٌ إِذَا كَانَ فِيهِ وَخَامَةٌ، وَمَاءٌ وَبِيلٌ إِذَا لم يستمر، أو الطعام الْوَبِيلُ الَّذِي يَثْقُلُ عَلَى الْمَعِدَةِ فَلَا يَنْهَضِمُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ١٦] أَيْ ثَقِيلًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَبَالًا لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اثْنَانِ مِنْهَا تُوجِبُ تَنْقِيصَ الْمَالِ، وَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، وَهُمَا الْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ وَالْإِطْعَامُ، وَالثَّالِثُ: يُوجِبُ إِيلَامَ الْبَدَنِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَذَلِكَ أَيْضًا ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: عَفَا اللَّه عَمَّا مَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعَمَّا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي الْإِسْلَامِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ إِلَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَمَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ إِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَزَاءِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ: عَفَا اللَّه عَمَّا سَلَفَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِسَبَبِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ، وَمَنْ عَادَ إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَلَا كَفَّارَةَ لِجُرْمِهِ بَلْ يَنْتَقِمُ اللَّه مِنْهُ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فَاءُ الْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي، / فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِانْتِقَامَ كَافٍ فِي هَذَا الذَّنْبِ، وَكَوْنُهُ كَافِيًا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الْبَقَرَةِ: ١٢٦] وَفِي قَوْلِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ [الْجِنِّ: ١٣] إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِضْمَارًا مُقَدَّرًا وَالتَّقْدِيرُ:

وَمَنْ عَادَ فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّه مِنْهُ، وَمَنْ كَفَرَ فَأَنَا أُمَتِّعُهُ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَهُوَ لَا يَخَافُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ يَصِيرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جَزَاءً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِدْخَالِ حَرْفِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْفِعْلِ لَغْوًا أَمَّا إِذَا أَضْمَرْنَا الْمُبْتَدَأَ احْتَجْنَا إِلَى إِدْخَالِ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَيْهِ لِيَرْتَبِطَ بِالشَّرْطِ فَلَا تصير الفاء لغوا واللَّه أعلم.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]]

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)

قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ، وَجُمْلَةُ مَا يُصَادُ مِنَ الْبَحْرِ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ، الْحِيتَانُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَلَالٌ، وَالضَّفَادِعُ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهَا حَرَامٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنَّهُ حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ حَلَالٌ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ جَمِيعُ الْمِيَاهِ وَالْأَنْهَارِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ طَعَامَ الْبَحْرِ عَلَى صَيْدِهِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:

<<  <  ج: ص:  >  >>