للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّاقَّةِ مِثْلِ ضَرْبِ اللَّبَنِ وَنَقْلِ التُّرَابِ فَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ لَهُ: فَأْتِ بِها بَعْدَ قوله: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ وَجَوَابُهُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَرْسَلَكَ بِآيَةٍ فَأْتِنِي بِهَا وَأَحْضِرْهَا عِنْدِي لِيَصِحَّ دَعْوَاكَ وَيَثْبُتُ صِدْقُكَ وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ جَزَاءٌ وَقَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ فَكَيْفَ حُكْمُهُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُهُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا. وهاهنا الْمُؤَخَّرُ فِي اللَّفْظِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِي الْمَعْنَى وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠)

اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَالَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُعْجِزَتَهُ كَانَتْ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِظْهَارَ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةَ الطَّبِيعِيِّينَ يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَقَالُوا: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ أَنَّ تَجْوِيزَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْوُثُوقِ عَنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَمَا يُفْضِي إِلَى الْبَاطِلِ فَهُوَ بَاطِلٌ. إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْوُثُوقِ عَلَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَوَلَّدَ الثُّعْبَانُ الْعَظِيمُ مِنَ الْعَصَا الصَّغِيرَةِ لَجَوَّزْنَا أَيْضًا أَنْ يَتَوَلَّدَ الْإِنْسَانُ الشَّابُّ الْقَوِيُّ عَنِ التِّبْنَةِ/ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الشَّعِيرِ وَلَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لَجَوَّزْنَاهُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْآنَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَلَجَوَّزْنَا فِي زَيْدٍ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْآنَ أَنَّهُ لَيْسَ هو زيد الَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِالْأَمْسِ بَلْ هُوَ شَخْصٌ آخَرُ حَدَثَ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ أَبْوَابَ هَذِهِ التَّجْوِيزَاتِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْخَبَلِ وَالْعَتَهِ وَالْجُنُونِ ولان لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَجَوَّزْنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِبَالَ انْقَلَبَتْ ذَهَبًا وَمِيَاهَ الْبِحَارِ انْقَلَبَتْ دَمًا ولجوزنا في التراب الَّذِي كَانَ فِي مَزْبَلَةِ الْبَيْتِ أَنَّهُ انْقَلَبَ دَقِيقًا وَفِي الدَّقِيقِ الَّذِي كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنَّهُ انْقَلَبَ تُرَابًا وَتَجْوِيزُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يُبْطِلُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَيُوجِبُ دُخُولَ الْإِنْسَانِ فِي السَّفْسَطَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا فَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ كَانَ أَيْضًا بَاطِلًا.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: تَجْوِيزُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ دَعْوَةِ الأنبياء وهذا لزمان لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْأَمَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ تَجْوِيزِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ.

فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّجْوِيزَ إِذَا كَانَ قَائِمًا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ تَخْصِيصُ هَذَا التَّجْوِيزِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَلِيلٍ غَامِضٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ الْغَامِضِ جَاهِلًا بِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ التَّجْوِيزِ بِذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْغَامِضَ أَنْ يُجَوِّزُوا كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجِهَاتِ وَأَنْ لَا يَكُونُوا قَاطِعِينَ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِهَا وَحَيْثُ نَرَاهُمْ قَاطِعِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>