مِنْهُ إِذَا فَزِعَ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ فَانْفِرُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الثُّبَاتُ جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَاحِدُهَا ثُبَةٌ، وَأَصْلُهَا مِنْ: ثَبَيْتُ الشَّيْءَ، أَيْ جَمَعْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: ثَبَيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أَثْنَيْتَ عليه، وتأويله جميع مَحَاسِنَهُ، فَقَوْلُهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مَعْنَاهُ: انْفِرُوا إِلَى الْعَدُوِّ إِمَّا ثُبَاتٍ، أَيْ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً، سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَإِمَّا جَمِيعًا، أَيْ مُجْتَمِعِينَ كَوْكَبَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: ٢٣٩] أي على أي الحالتين كنتم فصلوا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
[في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى المؤمنين الذين ذكرهم اللَّه بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُبْطِئُ مُنَافِقًا فَكَيْفَ جَعَلَ الْمُنَافِقَ قِسْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ وَالِاخْتِلَاطِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ مُتَشَبِّهِينَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ:
كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي زَعْمِكُمْ ودعواكم كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: ٦] .
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ كَانُوا ضَعَفَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: وَالتَّبْطِئَةُ بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ أَيْضًا، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْدِيدِ تَكَرُّرُ الْفِعْلِ مِنْهُ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا أَبْطَأَ بِكَ يَا فُلَانُ عَنَّا، وَإِدْخَالُهُمُ الْبَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُبَطِّئُ عَنْ هَذَا الْغَرَضِ وَيَتَثَاقَلُ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ، فَإِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ لِيَأْخُذُوا الْغَنِيمَةَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ سَرَّهُمْ أَنْ كَانُوا مُتَخَلِّفِينَ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ هُمُ الذين أرادهم اللَّه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: ٣٨] قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيُبَطِّئَنَّ الْإِبْطَاءُ مِنْهُمْ لَا تَثْبِيطُ غَيْرِهِمْ، ما حكاه تعالى من قولهم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عِنْدَ الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَثْبِيطُ الْغَيْرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى. وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً فَيُعِدُّ قُعُودَهُ عَنِ الْقِتَالِ نِعْمَةً مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ/ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَيْضًا لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ