للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مَا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَغَرَّهُمْ بِهِ قَالَ الْقَاضِيَ هَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّرْغِيبَ الْكَامِلَ فِي الْإِيمَانِ وَيَقْتَضِي زَوَالَ الْغَمِّ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَمَا أَعَدَّ لَهُ مِنْ مَنَازِلِ الثَّوَابِ بِسَبَبِ صَبْرِهِ على سفاهتهم ولطفه بهم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٣]]

وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اعْلَمْ أَنَّ الصَّغْوَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ. يُقَالُ فِي الْمُسْتَمِعِ إِذَا مَالَ بِحَاسَّتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يُصْغِي وَيُقَالُ أَصْغَى الْإِنَاءَ إِذَا أَمَالَهُ حَتَّى انْصَبَّ بَعْضُهُ فِي الْبَعْضِ وَيُقَالُ لِلْقَمَرِ إِذَا مَالَ إِلَى الْغُرُوبِ صَغَا وَأَصْغَى. فَقَوْلُهُ وَلِتَصْغى أَيْ وَلِتَمِيلَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا التَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ وَإِنَّمَا أَوْجَدْنَا الْعَدَاوَةَ فِي قَلْبِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ لِيَكُونَ كَلَامُهُمُ الْمُزَخْرَفُ مَقْبُولًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَالُوا وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ قَالَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الزَّجْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ [الْإِسْرَاءِ ٦٤] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا [الانعام ١١٣] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلرَّسُولِ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهُمْ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ أَنَّ هذه اللام لام العاقبة اي ستئول عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قَالَ الْقَاضِي وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْعَاقِبَةُ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَمِيلَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ إِلَى قَبُولِ الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ وَلَا أَنْ يَرْضَوْهُ وَلَا أَنْ يَقْتَرِفُوا الذَّنْبَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى ان عاقبة أمرهم تؤل إِلَى أَنْ يَقْبَلُوا الْأَبَاطِيلَ وَيَرْضَوْا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الانعام ١١٢] وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُوحِي إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيُغْرَوْا بِذَلِكَ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا الذُّنُوبَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ فَضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي. فَأَحَدُهَا أَنَّ «الْوَاوَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى تَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَحَمْلُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِعِيدٌ. وَثَانِيهَا أَنَّ «اللَّامَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَامُ كَيْ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَيَقْرُبُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيفًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يجوز.

<<  <  ج: ص:  >  >>