للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الجزء الرابع]

[تتمة سورة البقرة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]]

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ الْغَيْرِ وَصَلَاحِهِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَذَلِكَ أَلْزَمَهُمْ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهَا الْقِيَامَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَتَيْنِ، وَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّطَوُّعَاتُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ عَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَلِأَنَّ وِجْدَانَ عَيْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا يُرْغَبُ فِيهِ، فَبَقِيَ أَنَّ الْمُرَادَ وِجْدَانُ ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ تَرْغِيبٌ مِنْ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يُجَازِي عَلَى الْكَثِيرِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ خِلَافِهِ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ، وَأَمَّا الْخَيْرُ فَهُوَ النَّفْعُ الْحَسَنُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنَ الطَّاعَةِ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْحَجِّ: ٧٧] .

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ/ لَا تَقُولُ فِي النَّصَارَى: إِنَّهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ فِي الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، وَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ سِوَاهُ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ كُلَّ واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١٣٥] وَالْهُودُ: جَمْعُ هَائِدٍ، كَعَائِذٍ وَعُوذٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قِيلَ: كَانَ هُودًا، عَلَى تَوْحِيدِ الِاسْمِ، وَجَمْعِ الْخَبَرِ؟ قُلْنَا: حُمِلَ الِاسْمُ عَلَى لَفْظِ (مَنْ) وَالْخَبَرُ عَلَى مَعْنَاهُ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: ١٦٣] وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَنَّيَاتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَمَنِّيهِمْ لِذَلِكَ قَدَّرُوهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَمْنِيَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ قُلْنَا: أُشِيرَ بِهَا إِلَى الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ، أَيْ: تِلْكَ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ أَمَانِيُّهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً