للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مُخْتَلِفَةً فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهَا سَيَّارَةٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتَةٌ، وَالثَّوَابِتُ بَعْضُهَا فِي الْمِنْطَقَةِ وَبَعْضُهَا فِي الْقُطْبَيْنِ، وَأَيْضًا الثَّوَابِتُ لَامِعَةٌ وَالسَّيَّارَةُ غَيْرُ لَامِعَةٍ، وَأَيْضًا بَعْضُهَا كَبِيرَةٌ دُرِّيَّةٌ عَظِيمَةُ الضَّوْءِ، وَبَعْضُهَا صَغِيرَةٌ خَفِيَّةٌ قَلِيلَةُ الضَّوْءِ، وَأَيْضًا قَدَّرُوا مَقَادِيرَهَا عَلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهَذَا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَرِّ التَّعْطِيلِ. وَأَمَّا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَحْرِ التَّشْبِيهِ فَلِأَنَّا نَقُولُ إِنَّهُ لَا عَيْبَ يَقْدَحُ فِي إِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ إِلَّا أَنَّهَا أَجْسَامٌ فَتَكُونُ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَمَحْدُودَةٌ وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَمُتَحَرِّكَةٌ وَمُنْتَقِلَةٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنْ لَمْ تَكُنْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ امْتَنَعَ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَجَبَ تَنْزِيهُ الْإِلَهِ عَنْهَا بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَهَذَا بَيَانُ الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي بَرِّ التَّعْطِيلِ وَبَحْرِ التَّشْبِيهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُدُولًا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إِلَى مَجَازِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي مَنَافِعِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] فَنَبَّهَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ عَلَى أَنَّ فِي وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا حِكْمَةً عَالِيَةً وَمَنْفَعَةً شَرِيفَةً، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يُحِيطُ عَقْلُنَا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَجَبَ نَفْيُهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقَدِّرَ حِكْمَةَ اللَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ بِمِكْيَالِ خَيَالِهِ وَمِقْيَاسِ قِيَاسِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ النُّجُومِ. قَالَ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ النُّجُومَ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ هَاهُنَا الْعَقْلَ فَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] إِلَى قَوْلِهِ:

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠] وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْقُولِ وَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الشَّاهِدِ إلى الغائب.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٨]]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] هَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الْإِلَهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَحَوَّاءُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. فَصَارَ كُلُّ النَّاسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ آدَمُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى؟

قُلْنَا: هُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ مِنْ مَرْيَمَ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ أَبَوَيْهَا.

فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْكَلِمَةِ أَوْ مِنَ الرُّوحِ الْمَنْفُوخِ فِيهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ؟

قُلْنَا: كَلِمَةُ «مِنْ» تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَهَذَا الْقَدْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>