للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَافٍ فِي صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ. قَالَ الْقَاضِي: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْشَأَكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ لِأَنَّ أَنْشَأَكُمْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ لَا ابْتِدَاءً. وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّمُوِّ وَالنُّشُوءِ لَا مِنْ مَظْهَرٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: فِي النَّبَاتِ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهُ بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ إِلَى وَقْتِ الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَمُسْتَقَرٌّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ.

قَالَ سِيبَوَيْهِ، يُقَالُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ وَاسْتَقَرَّ فَمَنْ كَسَرَ الْقَافَ كَانَ الْمُسْتَقِرُّ بِمَعْنَى الْقَارِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» أَيْ مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ. وَمَنْ فَتَحَ الْقَافَ فَلَيْسَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِأَنَّ اسْتَقَرَّ لَا يَتَعَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ بِهِ فَيَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ فَالْمُسْتَقِرُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَرِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» بَلْ يَكُونُ خَبَرُهُ «لَكُمْ» فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَكُمْ مَقَرٌّ وَأَمَّا الْمُسْتَوْدَعُ فَإِنَّ اسْتَوْدَعَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ اسْتَوْدَعْتُ زَيْدًا أَلْفًا وَأَوْدَعْتُ مِثْلَهُ، فَالْمُسْتَوْدَعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانَ نَفْسَهُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ مُسْتَقَرًّا بِفَتْحِ الْقَافِ جَعَلَ الْمُسْتَوْدَعَ مَكَانًا لِيَكُونَ مِثْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فَلَكُمْ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ وَمَكَانُ اسْتِيدَاعٍ وَمَنْ قَرَأَ فَمُسْتَقَرٌّ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى: مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْكُمْ مَنِ اسْتَقَرَّ وَمِنْكُمْ مَنِ اسْتَوْدَعَ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَبْحَثُ الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ أَقْرَبُ إِلَى النَّبَاتِ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَالشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ وَلَا يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَقَرًّا فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِيهِ وَكَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَوْدَعًا لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ فِي مَعْرِضٍ أَنْ يُسْتَرَدَّ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَثُرَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ هُوَ الْأَرْحَامُ وَالْمُسْتَوْدَعَ الْأَصْلَابُ قَالَ كُرَيْبٌ: كَتَبَ جَرِيرٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَجَابَ الْمُسْتَوْدَعُ الصُّلْبُ وَالْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ ثُمَّ قَرَأَ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: ٥] وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينَ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ فِي الرَّحِمِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي صُلْبِ الْأَبِ كَانَ حَمْلُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْمُكْثِ فِي الرَّحِمِ أَوْلَى.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ صُلْبُ الْأَبِ وَالْمُسْتَوْدَعَ رَحِمُ الْأُمِّ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ حَصَلَتْ فِي صُلْبِ الْأَبِ لَا مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ وَهِيَ حَصَلَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، فَحُصُولُ تِلْكَ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ مُشَبَّهٌ بِالْوَدِيعَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُسْتَقَرِّ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ وَحُصُولُ النُّطْفَةِ فِي صُلْبِ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى حُصُولِهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ. فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صِدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَكُونُ مُشْرِفَةً عَلَى الزَّوَالِ وَالذَّهَابِ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. إِنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>