حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أَحْسَنُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مِنْ قَوْلِنَا وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلْمَحْرُومِ وَالسَّائِلِ، فَإِنْ قِيلَ قُدِّمَ السَّائِلُ على المحروم هاهنا لِمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِمَ قُدِّمَ الْمَحْرُومُ على السائل في قوله الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ لِأَنَّ الْقَانِعَ/ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ؟ نَقُولُ قَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَانِعَ هُوَ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كِلَاهُمَا لَا يَسْأَلُ لَكِنَّ الْقَانِعَ لَا يَتَعَرَّضُ وَلَا يَخْرُجُ مَنْ بَيْتِهِ وَالْمُعْتَرَّ يَتَعَرَّضُ لِلْأَخْذِ بِالسَّلَامِ وَالتَّرَدُّدِ وَلَا يَسْأَلُ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْقَانِعَ لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرَّ يَسْأَلُ، فَعَلَى هَذَا فَلَحْمُ الْبَدَنَةِ يُفَرَّقُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ سَاعٍ أَوْ مُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةِ جِزْيَةٍ، وَالزَّكَاةُ لَهَا طَالِبٌ وَسَائِلٌ هُوَ السَّاعِي وَالْإِمَامُ، فَقَوْلُهُ لِلسَّائِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّكَاةِ وَقَوْلُهُ وَالْمَحْرُومِ أَيِ الْمَمْنُوعِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّدَقَةِ المتطوع بها وأحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم. ثم قال تعالى:
[[سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٠]]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)
وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ... وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ كَائِنٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إِلَى أَنْ قَالَ:
إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى [فُصِّلَتْ: ٣٩] وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَالِ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُمْ خَافُوا اللَّهَ فَعَظَّمُوهُ فَأَظْهَرُوا الشَّفَقَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَانَ لَهُمْ آيَاتٌ فِي الْأَرْضِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْآيَاتُ الْعَجِيبَةُ يَكُونُ لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ فَيُخْشَى وَيُتَّقَى، ومن له من أَنْفُسِ النَّاسِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ وَنِعَمٌ سَابِغَةٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُتْرُكَ الْهُجُوعُ لِعِبَادَتِهِ، وَإِذَا قَابَلَ الْعَبْدُ الْعِبَادَةَ بِالنِّعْمَةِ يَجِدُهَا دُونَ حَدِّ الشُّكْرِ فَيَسْتَغْفِرُ عَلَى التَّقْصِيرِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ، فَالْآيَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فِيهَا تَقْرِيرُ مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا فقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الذَّارِيَاتِ: ٢٣] يَكُونُ عَوْدُ الْكَلَامِ بَعْدَ اعْتِرَاضِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَقْوَى وَأَظْهَرَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ خَصَّصَ الْمُوقِنِينَ بِكَوْنِ الْآيَاتِ لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ حَاصِلَةٌ لِلْكُلِّ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَمِينَ آخَرُ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُبَرْهِنُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلًا يَأْتِي بِالْبُرْهَانِ، فَإِنْ صُدِّقَ فَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُصَدَّقْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنْسُبَهُ الْخَصْمُ إِلَى إِصْرَارٍ عَلَى الْبَاطِلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَدْحٍ فِيهِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ يَعْتَرِفْ لَهُ بِقُوَّةِ الْجَدَلِ وَيَنْسُبْهُ إِلَى الْمُكَابَرَةِ فَيَتَعَيَّنُ طَرِيقُهُ فِي الْيَمِينِ، فَإِذًا آيَاتُ الْأَرْضِ لَمْ تفدهم لأن اليمين بقوله وَالذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: ١] دَلَّتْ عَلَى سَبْقِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَاتِ وَذِكْرِ الْآيَاتِ وَلَمْ يُفِدْ فَقَالَ فِيهَا: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُصِرِّ الْمُعَانِدِ مِنْهَا فَائِدَةٌ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ يس وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا آيَاتِ الْأَرْضِ لِلْعَامَّةِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا الْيَمِينُ وَذِكْرُ الْآيَاتِ قَبْلَهُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَرْضَ آيَاتٌ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهَا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ هُنَا الْآيَاتُ بِالْفِعْلِ وَالِاعْتِبَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ وَحَيْثُ قَالَ لِكُلٍّ مَعْنَاهُ إِنَّ فِيهَا آيَاتٍ لَهُمْ إِنْ نَظَرُوا وَتَأَمَّلُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: هاهنا قَالَ: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وَقَالَ هُنَاكَ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: ٣٣] نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ الْآيَةَ لِلْمُوقِنِينَ ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُوقِنَ لَا يَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالٍ وَيَرَى فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَاتٍ دَالَّةً، وَأَمَّا الْغَافِلُ فَلَا يَتَنَبَّهُ إِلَّا بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَيَكُونُ الْكُلُّ له كالآية الواحدة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute