الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: ٤٢] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُعِيدَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ أُمِرَ بِهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُمُ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، ثُمَّ احْتَكَمُوا فِي قَتِيلٍ كَانَ فِيهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِهِ يَرُدُّوكَ إِلَى أَهْوَائِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ صُرِفَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فَقَدْ فُتِنَ، وَمِنْهُ قوله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: ٧٣] والفتنة هاهنا فِي كَلَامِهِمُ الَّتِي تُمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَتُلْقِي فِي الْبَاطِلِ
وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا»
قَالَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الطَّرِيقِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ جَائِزَانِ عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَالتَّعَمُّدُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الرَّسُولِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ يَبْتَلِيَهُمْ بِجَزَاءِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّطَكَ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جُوزُوا فِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَكَانَ مُجَازَاتُهُمْ بِالْبَعْضِ كَافِيًا فِي إِهْلَاكِهِمْ وَالتَّدْمِيرِ عَلَيْهِمْ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَرَادَ ذُنُوبَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لَمُتَمَرِّدُونَ فِي الْكُفْرِ مُعْتَدُونَ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ/ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَبْغُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ بِرَفْعِ الْحُكْمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِيقَاعِ يَبْغُونَ خَبَرًا وَإِسْقَاطِ الْرَّاجِعِ عَنْهُ لِظُهُورِهِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَبِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي يَبْغُونَهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادُوا بِشَهِيَّتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ حَكَمًا كَأُولَئِكَ الْحُكَّامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ دِمَاءٌ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: بَنُو النَّضِيرِ إِخْوَانُنَا، أَبُونَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَّا قَتِيلًا أَعْطَوْنَا سَبْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَإِنْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَاحِدًا أَخَذُوا مِنَّا مِائَةً وَأَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَأُرُوشُ جِرَاحَاتِنَا عَلَى النصف من أروش جِرَاحَاتِهِمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا