للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالسَّلَامُ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَمْسِ شَيْئًا لَمْ يَجُدْ لِي بِهِ: سَأَلْتُهُ التَّبِعَاتِ فَأَبَى عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: التَّبِعَاتُ ضَمَنْتُ عِوَضَهَا مِنْ عِنْدِي»

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ بِفَضْلِكَ يَا أكرم الأكرمين.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٠]]

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَجَّتِهِمْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى وَبَيْنَ الْجَبَلِ، وَيَذْكُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَضَائِلَ آبَائِهِ فِي السَّمَاحَةِ وَالْحَمَاسَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَتَنَاشَدُونَ فِيهَا الْأَشْعَارَ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمَنْثُورِ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ حُصُولَ الشُّهْرَةِ وَالتَّرَفُّعَ بِمَآثِرِ سَلَفِهِ، فَلَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ لِرَبِّهِمْ كَذِكْرِهِمْ لِآبَائِهِمْ،

وَرَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقُصْوَى يَوْمَ الْفَتْحِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَكُّكَهَا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ تَلَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الْحُجُرَاتِ: ١٣] أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ»

وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْعَرَبَ بِمِنًى بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَجِّ كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، عَظِيمَ الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَضَاءَ إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلِ النَّفْسِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِتْمَامُ وَالْفَرَاغُ، وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ، نَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتَ: ١٢] ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة: ١٠]

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»

وَيُقَالُ فِي الْحَاكِمِ عِنْدَ فَصْلِ الْخُصُومَةِ قَضَى بَيْنَهُمَا، وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْلَامِ، فَالْمُرَادُ أَيْضًا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: ٤] يَعْنِي أَعْلَمْنَاهُمْ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْفَرَاغَ مِنْ جَمِيعِهِ خُصُوصًا وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَنَاسِكِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَاتٍ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا حَجَجْتَ فَطُفْ وَقِفْ بِعَرَفَةَ وَلَا يَعْنِي بِهِ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ بَلِ الدُّخُولَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ مُشْعِرٌ بِالْفَرَاغِ وَالْإِتْمَامِ مِنَ الْكُلِّ، وَهَذَا مُفَارِقٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا حَجَجْتَ فَقِفْ بِعَرَفَاتٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ هُنَاكَ الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ لَا الْفَرَاغُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْمَنَاسِكُ» جَمْعُ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ بِمَنْزِلَةِ النُّسُكِ، أَيْ إِذَا قَضَيْتُمْ عِبَادَاتِكُمُ التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلنها جَمْعَ مَنْسَكٍ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ أَعْمَالَ مَنَاسِكِكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ.