وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: بِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَتَشَابَهَانِ جِدًّا فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَحَدِهِمَا مُسْتَعْمَلًا فِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّاسِ إِمَّا الْوَاقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَقَالَ: هُوَ آدَمُ نَسِيَ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَرَأَ النَّاسِ بِكَسْرِ السِّينِ اكْتِفَاءً بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة مع عَرَفَاتٍ شَرْعٌ قَدِيمٌ فَلَا تَتْرُكُوهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يُقَصِّرَ فِيمَا بَعْدُ، وَيَكُونَ غرضه في ذلك تحصيل مرضات اللَّهِ تَعَالَى لَا لِمَنَافِعِهِ الْعَاجِلَةِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا وَالْقَلْبُ حَاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَعْنَاهُمَا، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ فَهُوَ إِلَى الضَّرَرِ أَقْرَبُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَالِاسْتِغْفَارُ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْنِبْ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا تَدَارُكًا لِذَلِكَ الْخَلَلِ الْمُجَوَّزِ، وَإِنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ خَلَلٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَهَذَا كَالْمُمْتَنِعِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَيْنَ يُمْكِنُهُ هَذَا الْقَطْعُ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ فِي أَعْمَالِ كُلِّ الْعُمُرِ، إِلَّا أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِمْكَانِهِ فَالِاسْتِغْفَارُ أَيْضًا وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَلِيقُ بِحَضْرَةِ الْخَالِقِ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، فَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ لَازِمًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ غَفُورًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَكَذَا الرَّحِيمُ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُذْنِبَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَثِيرُ الْغُفْرَانِ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لِذَلِكَ الْمُسْتَغْفِرِ، وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحَبْلِ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمَوْعُودَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى مِنًى، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ يُحْمَلُ؟ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ الثَّانِي بِمَا
رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَالتَّبِعَاتُ عِوَضُهَا مِنْ عِنْدِهِ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَضْتَ بِنَا بِالْأَمْسِ كَئِيبًا حَزِينًا وَأَفَضْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَرِحًا مَسْرُورًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ