للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُسْتَوْدَعَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَسَيُخْلَقُ.

وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: لِلْأَصَمِّ أَيْضًا الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ.

وَعَنْ قَتَادَةَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ فَقَالَ مُسْتَقَرٌّ فِي الْقَبْرِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدُّنْيَا.

الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ إِنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ لِأَنَّ النُّطْفَةَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ وَإِنَّمَا تَسْتَقِرُّ هُنَاكَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ رَحِمَهَا شَبِيهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ لِتِلْكَ النُّطْفَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ بِحَسَبِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ: الْأَشْخَاصُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَمُؤَثِّرٍ وَلَيْسَ السَّبَبُ هُوَ الْجِسْمِيَّةَ وَلَوَازِمَهَا وَإِلَّا لَامْتَنَعَ حُصُولُ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ الْحَكِيمَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الدلالة قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ لِلْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى تَمَسَّكَ أَوَّلًا بِتَكْوِينِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ مَيَّزَ تَعَالَى بَعْضَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَنْ بَعْضٍ، وَفَصَلَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ وَحِكْمَةٍ.

وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَالِ مَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ الْفِقْهَ، وَالْفَهْمَ وَالْإِيمَانَ، وَمَا أَرَادَ بِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا فَصَّلْتُ هَذَا الْبَيَانَ لِمَنْ عَرَفَ وَفَقِهَ وَفَهِمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا غَيْرَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ فِيهَا بِأَحْوَالِ النُّجُومِ بقوله:

يَعْلَمُونَ وختم آخره هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَفْقَهُونَ وَالْفَرْقُ أَنَّ إِنْشَاءَ الإنس من وَاحِدَةٍ، وَتَصْرِيفَهُمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ هَاهُنَا لِأَجْلِ أَنَّ الْفِقْهَ يُفِيدُ مَزِيدَ فِطْنَةٍ وَقُوَّةٍ وَذَكَاءٍ وفهم. واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]]

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَامِسَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَوُجُوهِ إِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَمَا أَنَّهَا دَلَائِلُ فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ بَالِغَةٌ، وَإِحْسَانَاتٌ كَامِلَةٌ، وَالْكَلَامُ إِذَا كَانَ دَلِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ إِنْعَامًا وَإِحْسَانًا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ عَظِيمًا، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>