للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَحْذِيرًا عَظِيمًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ، كَانَ عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ ... وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ

تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرْكَ الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ

أَنْسِيتَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ

وَعَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَبَانَا إِبْلِيسُ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجْنَا مِنْهَا، وَثَانِيهَا: التَّحْذِيرُ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] ، قَالَ حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ ثُمَّ أَلْقَى الْحِرْصَ فِي قَلْبِ آدَمَ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ثُمَّ أَلْقَى الْحَسَدَ فِي قَلْبِ قَابِيلَ حَتَّى قَتَلَ هَابِيلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ الْعَدَاوَةَ الشَّدِيدَةَ بَيْنَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الحذر.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]]

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ التَّلَقِّي هُوَ التَّعَرُّضُ لِلِقَاءٍ ثُمَّ يُوضَعُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِقْبَالِ لِلشَّيْءِ الْجَائِي ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النَّمْلِ: ٦] ، أَيْ تُلَقَّنَهُ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْنَا الْحُجَّاجَ أَيِ اسْتَقْبَلْنَاهُمْ. وَيُقَالُ: تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَخَذْتُهَا مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلَ الْكَلِمَةِ وَكَانَ مَنْ تَلَقَّى رَجُلًا فَتَلَاقَيَا لَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ فَأُضِيفَ الِاجْتِمَاعُ إِلَيْهِمَا مَعًا صَلُحَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوَصْفِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: كُلُّ مَا تَلَقَّيْتَهُ فَقَدْ تَلَقَّاكَ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَقَّى آدَمُ كَلِمَاتٍ أَيْ أَخَذَهَا وَوَعَاهَا وَاسْتَقْبَلَهَا بِالْقَبُولِ، وَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تَلَّقَى كَلِمَاتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى جَاءَتْهُ عَنِ اللَّهِ كَلِمَاتٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (الظَّالِمُونَ) .

المسألة الثانية: اعلم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْرِفَ مَاهِيَّةَ التَّوْبَةِ وَيَتَمَكَّنَ بِفِعْلِهَا مِنْ تَدَارُكِ الذُّنُوبِ وَيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا فَضْلًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ يجب حمله على أحد أمور. أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَهُ وُجُوبَ التَّوْبَةِ وَكَوْنَهَا مَقْبُولَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنِّي أَتُوبُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، أَيْ أَخَذَهَا وَقَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُ بِنِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ إِلَى التَّوْبَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ كَلَامًا لَوْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مَعَهُ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمَالِ حَالِ التَّوْبَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مَا هِيَ؟

فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى.