أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَلَوْ أَدْخَلْتَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الْأَهْلِ لَقُلْتَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْأَهْلِ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ نَعْتًا لِلْقَرْيَةِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَهْلِ، وَالْأَهْلُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ، فَالْقِيَامُ لِلْأَبِ وَقَدْ جَعَلْتَهُ وَصْفًا لِلرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَصْفِ التَّخْصِيصُ وَالتَّمْيِيزُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة: فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً قَوْلَانِ: فَالْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُونَ اجْعَلْ عَلَيْنَا رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَالِينَا وَيَقُومُ بِمَصَالِحِنَا وَيَحْفَظُ عَلَيْنَا دِينَنَا وَشَرْعَنَا، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى دُعَاءَهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ جَعَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ أَمِيرًا لَهُمْ، فَكَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ النَّصِيرُ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَكَانَ عَتَّابٌ يُنْصِفُ الضَّعِيفَ مِنَ الْقَوِيِّ وَالذَّلِيلَ مِنَ الْعَزِيزِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ: وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وِلَايَةً وَنُصْرَةً، والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا.
[[سورة النساء (٤) : آية ٧٦]]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ وُجُوبَ الْجِهَادِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِصُورَةِ الْجِهَادِ. بَلِ الْعِبْرَةُ بِالْقَصْدِ وَالدَّاعِي، فَالْمُؤْمِنُونَ يُقَاتِلُونَ لِغَرَضِ نُصْرَةِ دِينِ اللَّه وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت، وهذه الآية كالدلالة عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي فِعْلِهِ رِضَا غَيْرِ اللَّه فَهُوَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ وَهِيَ أَنَّ الْقِتَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه: أَوْ فِي سَبِيلِ/ الطَّاغُوتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى اللَّه طَاغُوتًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَنْ يُقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ اللَّه يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، وَالشَّيْطَانُ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ نُصْرَةَ الشَّيْطَانِ، لِأَوْلِيَائِهِ أَضْعَفُ مِنْ نُصْرَةِ اللَّه لِأَوْلِيَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَبْقَى ذِكْرُهُمُ الْجَمِيلُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَإِنْ كَانُوا حَالَ حَيَاتِهِمْ فِي غَايَةِ الْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ، وَأَمَّا الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ فَإِذَا مَاتُوا انْقَرَضَ أَثَرُهُمْ وَلَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا رَسْمُهُمْ وَلَا ظُلْمُهُمْ، وَالْكَيْدُ السَّعْيُ فِي فَسَادِ الْحَالِ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ يُقَالُ: كَادَهُ يَكِيدُهُ إِذَا سَعَى فِي إِيقَاعِ الضَّرَرِ عَلَى جِهَةِ الْحِيلَةِ عَلَيْهِ وَفَائِدَةُ إِدْخَالِ كانَ فِي قَوْلِهِ: كانَ ضَعِيفاً لِلتَّأْكِيدِ لِضَعْفِ كَيْدِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُنْذُ كَانَ كَانَ موصوفا بالضعف والذلة.
[[سورة النساء (٤) : آية ٧٧]]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ إلى قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ،
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْمِقْدَادِ وَقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَيَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذًى شَدِيدًا فَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ