فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَرْنُ قَدْ أَتَاهُمْ رَسُولٌ وَإِنَّمَا أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبُ أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ كَيْفَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ آبَاءَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا كُفَّارًا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ أَوْعَدَهُمْ وَأَوْعَدَ آبَاءَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ:
١٥] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ عَصْرٍ إِذَا ضَلُّوا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ يَلْطُفُ بِعِبَادِهِ وَيُرْسِلُ رَسُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ طُهْرَهُمْ بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ أَرَادَ طُهْرَ وَجْهِ الْأَرْضِ بِإِهْلَاكِهِمْ، ثُمَّ أَهْلُ الْعَصْرِ ضَلُّوا بَعْدَ الرُّسُلِ حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ أَيْ بَعْدَ الضَّلَالِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إِنْذَارُهُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ لَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ مُنْزَلًا إِلَى الرَّسُولِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ نَقُولُ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ لَكِنَّهُ وَافَقَ غَيْرَهُ فِي أَنَّ التَّخْصِيصَ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ نَفْيِ مَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ، وَهَاهُنَا وُجِدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٤] وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُنْذِرُ غَيْرَهُمْ أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِنْذَارِ غَيْرِهِمْ وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يُنْذَرُوا إِلَّا بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمُ الرِّسَالَةَ فَكَانُوا أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَوَقَعَ التَّخْصِيصُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا إِلَى الْكُلِّ عَلَى دَرَجَةٍ سَوَاءٍ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ حُسْنُ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يَعْنِي تُنْذِرُهُمْ رَاجِيًا أنت اهتداءهم. ثم قال تعالى:
[[سورة السجده (٣٢) : آية ٤]]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ مَا عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي/ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِي خَلَقَ، يَعْنِي اللَّهُ هُوَ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَلَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِشَارَةٌ إِلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ في نظر الناظرين وذلك لأن السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذَاتٌ وَصِفَةٌ فَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ ذَاتَ السموات حَالَةٌ وَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ صِفَاتِهَا أُخْرَى وَنَظَرًا إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ وَنَظَرًا إِلَى ذَوَاتِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ فَهِيَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْخَلْقِ رَآهُ فِعْلًا وَالْفِعْلُ ظَرْفُهُ الزَّمَانُ وَالْأَيَّامُ أشهر الأزمنة، وإلا فقبل السموات لَمْ يَكُنْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ وَهَذَا مِثْلُ مَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ:
إِنَّ يَوْمًا وُلِدْتَ فِيهِ ... كَانَ يَوْمًا مُبَارَكًا
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وُلِدَ لَيْلًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ وِلَادَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute