للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الله.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]]

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كَمَا نَصَرَكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا يَغْلِبْكُمْ أَحَدٌ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كَمَا خَذَلَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَنْصُرْكُمْ أَحَدٌ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى نَصَرَهُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٥] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ فَازَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَفُوزُ بِسَعَادَةٍ لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا وَبِعِزٍّ لَا ذُلَّ مَعَهُ، وَيَصِيرُ غَالِبًا لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْذُلُهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي شَقَاوَةٍ لَا سَعَادَةَ مَعَهَا، وَذُلٍّ لَا عِزَّ مَعَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، وَالْكَفْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخِذْلَانِهِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ مِنْ أَخْذَلَهُ إِذَا جَعَلَهُ مَخْذُولًا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِكَ:

لَيْسَ لَكَ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ.

ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا دَافِعَ لِحُكْمِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ الْمُؤْمِنُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عَلَى غيره.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]]

وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْمَنْعُ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُلُولُ هُوَ الْخِيَانَةُ، وَأَصْلُهُ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي الْخُفْيَةِ، يُقَالُ أَغَلَّ الْجَازِرُ وَالسَّالِخُ إِذَا أَبْقَى فِي الْجِلْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ عَلَى طَرِيقِ الْخِيَانَةِ، وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ. وَالْغِلَالَةُ الثَّوْبُ الَّذِي يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْغَلَلُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أُصُولِ الشَّجَرَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ بِالْأَشْجَارِ وَتَغَلَّلَ الشَّيْءُ إِذَا تَخَلَّلَ وَخَفِيَ،

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَعَثْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَغَلَّ شَيْئًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ» وَقَالَ: «هَدَايَا الْوُلَاةِ غُلُولٌ» وَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَقَالَ: «لَا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ»

وَأَيْضًا يُقَالُ: أَغَلَّهُ إِذَا وَجَدَهُ غَالًّا، كَقَوْلِكَ: أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ. أَيْ وَجَدْتُهُ كذلك.