للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْكَلْبِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ مَخْصُوصٌ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْحُرُوبِ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ «الْأَمْرِ» لَيْسَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ لَا تَجُوزُ الْمُشَاوَرَةُ فِيهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ هَاهُنَا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: قَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَقَبِلَ مِنْهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا، فَقَبِلَ مِنْهُمَا وَخَرَّقَ الصَّحِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اللَّفْظُ عَامٌّ خُصَّ عَنْهُ مَا نَزَلَ فِيهِ وَحْيٌ فَتَبْقَى حُجَّتُهُ فِي الْبَاقِي، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أُولِي الْأَبْصَارِ بالاعتبار فقال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، وَمَدَحَ الْمُسْتَنْبِطِينَ فَقَالَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: ٨٣] وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ عَقْلًا وَذَكَاءً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالِاجْتِهَادُ يَتَقَوَّى بِالْمُنَاظَرَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ فَلِهَذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ أَنَّ النَّصَّ كَانَ لِعَامَّةِ الْمَلَائِكَةِ فِي سُجُودِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ:

١٢] فَصَارَ مَلْعُونًا، فَلَوْ كَانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَمَا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ بِهَذَا السَّبَبِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: وَشاوِرْهُمْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ فَقَالَ هَذَا

كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا»

وَلَوْ أَكْرَهَهَا الْأَبُ عَلَى النِّكَاحِ جَازَ، لَكِنَّ الْأَوْلَى ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فَكَذَا هَاهُنَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْوَسِيطِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُشَاوَرَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعِنْدِي فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَهُمُ الْمُنْهَزِمُونَ، فَهَبْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ مِنْهُمْ فَكَيْفَ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الرَّأْيُ الْمُتَأَكَّدُ بِالْمَشُورَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ/ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِمَادُ عَلَى إِعَانَةِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ وَعِصْمَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّوَكُّلُ أَنْ يُهْمِلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، بَلِ التَّوَكُّلُ هُوَ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِنْسَانُ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرَةَ، وَلَكِنْ لَا يُعَوِّلُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا، بَلْ يُعَوِّلُ عَلَى عِصْمَةِ الْحَقِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَإِذا عَزَمْتَ بِضَمِّ التَّاءِ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلرَّسُولِ إِذَا عَزَمْتُ أَنَا فَتَوَكَّلْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَزْمِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعَزْمُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، وَالْمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ وَأَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ. فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ، وَلَا تُشَاوِرْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهَا بِالْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.