وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّعْنَ سَيْرُ الْبَادِيَةِ لِنُجْعَةٍ، أَوْ حُضُورِ مَاءٍ، أَوْ طَلَبِ مَرْتَعٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ شَاخِصٍ لِسَفَرٍ:
ظَاعِنٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَافِضِ. وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بِمَعْنَى لَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَصْوَافُ لِلضَّأْنِ وَالْأَوْبَارُ لِلْإِبِلِ وَالْأَشْعَارُ لِلْمَعِزِ.
وَقَوْلُهُ: أَثاثاً الْأَثَاثُ أَنْوَاعُ مَتَاعِ الْبَيْتِ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا وَاحِدَ لَهُ. قَالَ: وَلَوْ جَمَعْتَ، فَقُلْتَ: آثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَاحِدُهَا أَثَاثَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَثاثاً يُرِيدُ طَنَافِسَ وَبُسُطًا وَثِيَابًا وَكُسْوَةً. قَالَ الْخَلِيلُ: وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله: مَتاعاً أَيْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلى حِينٍ يُرِيدُ إِلَى حِينِ الْبَلَا، وَقِيلَ: إِلَى حِينِ الموت. وقيل: إلى حين بعد الحين، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَطَفَ الْمَتَاعَ عَلَى الْأَثَاثِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ؟
قُلْنَا: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَثَاثَ مَا يَكْتَسِي بِهِ الْمَرْءُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْغِطَاءِ وَالْوِطَاءِ، وَالْمَتَاعَ مَا يُفْرَشُ فِي الْمَنَازِلِ ويزين به.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، وَالْمُسَافِرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ:
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً.
وأما الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَيْمَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَظِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ كَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ وَقَدْ يَسْتَظِلُّ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [الْبَقَرَةِ: ٥٧] .
ثم قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً واحد الأكنان كِنٌّ عَلَى قِيَاسِ أَحْمَالٍ وَحِمْلٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ وَقَى شَيْئًا، وَيُقَالُ اسْتَكَنَ وَأَكَنَّ إِذَا صَارَ فِي كِنٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، وَحَاجَتُهُمْ إِلَى الظِّلِّ وَدَفْعِ الْحَرِّ شَدِيدَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي مَعْرِضِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَيْضًا الْبِلَادُ الْمُعْتَدِلَةُ وَالْأَوْقَاتُ الْمُعْتَدِلَةُ نَادِرَةٌ جِدًّا وَالْغَالِبُ إِمَّا غَلَبَةُ الْحَرِّ أَوْ غَلَبَةُ الْبَرْدِ. وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَسْكَنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِنْعَامُ بِتَحْصِيلِهِ عَظِيمًا، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ الْمَسْكَنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَمْرَ الْمَلْبُوسِ فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ