أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ اسْتِدْلَالٍ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وهذا على قولنا أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥] مَعْنَاهُ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ تَتْمِيمَ بَيَانِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُنَا (الْخَلْقُ الْأَوَّلُ) هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرٍ يُوجِبُ عَوْدَهُمْ عَنْ مَقَالِهِمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَيَعْلَمُ ذَوَاتَ صُدُورِهِمْ.
وَقَوْلُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
بَيَانٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَالْوَرِيدُ الْعِرْقُ الَّذِي هُوَ مَجْرَى الدَّمِ يَجْرِي فِيهِ وَيَصِلُ إِلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَاللَّهُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ الْعِرْقَ تَحْجُبُهُ أَجْزَاءُ اللَّحْمِ وَيَخْفَى عَنْهُ، وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى/ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بِتَفَرُّدِ قُدْرَتِنَا فِيهِ يَجْرِي فِيهِ أَمْرُنَا كَمَا يَجْرِي الدَّمُ فِي عروقه. ثم قال تعالى:
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
إِذْ ظَرْفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ سُدًى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَقَامَ كِتَابًا عَلَى أَمْرٍ اتَّكَلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْهُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَّكِلُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْكِتَابِ لَا يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَلَا يَغْفَلُ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَشَدُّ إِقْبَالًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: اللَّهُ فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمَلَكَيْنِ مِنْهُ فِعْلَهُ وَقَوْلَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ عرقه المخالط له، فعند ما يَخْفَى عَلَيْهِمَا شَيْءٌ يَكُونُ حِفْظُنَا بِحَالِهِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّلَقِّي مِنَ الِاسْتِقْبَالِ يُقَالُ فُلَانٌ يَتَلَقَّى الرَّكْبَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَقْتَ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّيَانِ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ قَعِيدٌ، فَالْمُتَلَقِّيَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الصَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى السُّرُورِ وَالْحُبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ وَالْآخَرُ يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الطَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ مِنَ الْقُبُورِ، فَقَالَ تَعَالَى وَقْتَ تَلَقِّيهِمَا وَسُؤَالِهِمَا إِنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَعِيدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنِ الشِّمَالِ، يَعْنِي الْمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ وَعِنْدَهُ مَلَكَانِ آخَرَانِ كَاتِبَانِ لِأَعْمَالِهِ يَسْأَلَانِهِمَا مِنْ أَيِّ القيلين كَانَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَأْخُذُ رُوحَهُ مَلَكُ السُّرُورِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْمَلَكِ الْآخَرِ مَسْرُورًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَسْرُورًا مِمَّنْ يَأْخُذُهَا هُوَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّالِحِينَ يَأْخُذُهَا مَلَكُ الْعَذَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْآخَرِ مَحْزُونًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَأْخُذُهَا هُوَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١] فَالشَّهِيدُ هُوَ الْقَعِيدُ وَالسَّائِقُ هُوَ الْمُتَلَقِّي يَتَلَقَّى أَخْذَ رُوحِهِ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ فَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ. وَهَذَا أَعْرَفُ الْوَجْهَيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الْفَهْمِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ جَلَسْتُ عَنْ يَمِينِ فُلَانٍ فِيهِ إِنْبَاءٌ عَنْ تَنَحٍّ مَا عَنْهُ احْتِرَامًا لَهُ وَاجْتِنَابًا مِنْهُ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] الْمَخَالِطِ لِأَجْزَائِهِ الْمُدَاخِلِ فِي أَعْضَائِهِ وَالْمَلَكُ مُتَنَحٍّ عنه فيكون علنا بِهِ أَكْمَلَ مِنْ عِلْمِ الْكَاتِبِ لَكِنَّ مَنْ أَجْلَسَ عِنْدَهُ أَحَدًا لِيَكْتُبَ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ وَيَكُونُ الْكَاتِبُ نَاهِضًا خَبِيرًا وَالْمَلِكُ الَّذِي أَجْلَسَ الرَّقِيبَ يَكُونُ جَبَّارًا عَظِيمًا فَنَفْسُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَاتِبِ بِكَثِيرٍ، وَالْقَعِيدُ هُوَ الْجَلِيسُ كَمَا أَنَّ قعد بمعنى جلس.
[[سورة ق (٥٠) : آية ١٩]]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute