للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاعلا، فنحن نقول هاهنا أَيْضًا إِذَا كَانَ تَحْصِيلُ الْإِيمَانِ وَإِبْقَاؤُهُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ يَطْلُبُ ذَلِكَ مِنَ اللَّه قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ مَعْنَاهُ: اطْلُبِ اللُّطْفَ لِي فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ أَمُوتَ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَحَمْلُهُ عَلَى اللُّطْفِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَأَيْضًا كُلُّ مَا فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَهُ فَكَانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّه مُحَالًا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ حَاصِلُهُ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَالْجَوَابُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَسْتَقِرُّ قَلْبُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْلَامِ وَيَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، وَيَكُونُ مُطْمَئِنَّ النفس منشرح الصدر منفسخ الْقَلْبِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ، فَالْمَطْلُوبُ هاهنا هُوَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالصَّلَاحُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْوَاصِلُ إِلَى الْغَايَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَطْلُبَ الْبِدَايَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي بِآبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَالْمَعْنَى: أَلْحِقْنِي بِهِمْ فِي ثَوَابِهِمْ ومراتبهم ودرجاتهم، وهاهنا مَقَامٌ آخَرُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لِسَانِ أَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَهُوَ أَنَّ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ إِذَا أَشْرَقَتْ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَاللَّوَامِعِ الْقُدْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ مُتَنَاسِبَةً مُتَشَاكِلَةً/ انْعَكَسَ النُّورُ الَّذِي فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى بِسَبَبِ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُجَانَسَةِ، فَتَعْظُمُ تِلْكَ الْأَنْوَارُ وَتَقْوَى تِلْكَ الْأَضْوَاءُ، وَمِثَالُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمِرْآةُ الصَّقِيلَةُ الصَّافِيَةُ إِذَا وُضِعَتْ وَضْعًا مَتَى أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهَا انْعَكَسَ الضَّوْءُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَهُنَاكَ يَقْوَى الضَّوْءُ وَيَكْمُلُ النُّورُ، وَيَنْتَهِي في الإشراق والبريق اللمعان إِلَى حَدٍّ لَا تُطِيقُهُ الْعُيُونُ وَالْأَبْصَارُ الضَّعِيفَةُ، فكذا هاهنا.

[[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٢]]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ- ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ مَا كُنْتَ عِنْدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ عَزَمُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ قَوْلِهِ:

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَمْكُرُونَ أَيْ بِيُوسُفَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. بَيَانُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَالَعَ الْكُتُبَ وَلَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَمَا كَانَتِ الْبَلْدَةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ فَإِتْيَانُهُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَا غَلَطٌ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَالَ:

إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا وَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، وَقَوْلُهُ: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْ وَمَا كُنْتَ هُنَاكَ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٧]

وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>