للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقُولَنْجِ الشَّدِيدِ وَالْعِيَاذُ باللَّه مِنْهُ أَشَدُّ مِنَ الشُّعُورِ بِاللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ شَبِعَ وَإِذَا شَبِعَ لَمْ يَبْقَ شَوْقُهُ لِلِالْتِذَاذِ بِالْأَكْلِ فَهَذِهِ اللَّذَّةُ ضَعِيفَةٌ، وَمَعَ ضَعْفِهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَسِيسَةٌ فَإِنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْطِيبِ ذَلِكَ الطَّعَامِ بِالْبُزَاقِ الْمُجْتَمِعِ فِي الْفَمِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مُنَفِّرٌ مُسْتَقْذَرٌ ثَمَّ لَمَّا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ تَظْهَرُ فِيهِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى الْفَسَادِ وَالنَّتْنِ وَالْعُفُونَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُنَفِّرٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةِ مُشَارِكَةٌ فِيهَا فَإِنَّ الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج فِي مَذَاقِ الْإِنْسَانِ وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ تَنَاوُلَ غِذَاءِ الْجُعْلِ، فَكَذَلِكَ الْجُعْلُ يَكْرَهُ تَنَاوُلَ غِذَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ فَمُشْتَرَكَةٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ إِنَّمَا يَطِيبُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْجُوعِ وَتِلْكَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَالْحَاجَةُ نَقْصٌ وَافِرٌ.

وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْأَكْلَ يُسْتَحْقَرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. قِيلَ: مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ فَقِيمَتُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فِي مَعَايِبِ الْأَكْلِ، وَأَمَّا لَذَّةُ النِّكَاحِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَكْلِ حاصل هاهنا مَعَ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ تَكْثُرُ الْأَشْخَاصُ فَتَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ فَيَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِهَا إِلَى الِاحْتِيَالِ فِي طَلَبِ الْمَالِ بِطُرُقٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَرُبَّمَا صَارَ هَالِكًا بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَالِ، وَأَمَّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره هاهنا سبب وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَكْرَهُ بِالطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا مَأْمُورًا وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَخْدُومًا آمِرًا، فَإِذَا سَعَى الْإِنْسَانُ فِي أَنْ يَصِيرَ رَئِيسًا آمِرًا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى مُخَالَفَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَأَنَّهُ يُنَازِعُ كُلَّ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يُحَاوِلُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الرِّيَاسَةِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يُحَاوِلُونَ إِبْطَالَهُ وَدَفْعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَسْبَابِ تُوجِبُ قُوَّةَ حُصُولِ الْأَثَرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حصول هذه الرياسة كالمعتذر وَلَوْ حَصَلَ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ بِكُلِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَكَانَ صَاحِبُهَا عِنْدَ حُصُولِهَا فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ مِنَ الزَّوَالِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا فِي الْأَسَفِ الْعَظِيمِ وَالْحُزْنِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّوَالِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُ فِي طَلَبِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ وَالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ خُلِقَتْ مَجْبُولَةً عَلَى طَلَبِهَا، وَالْعِشْقِ الشَّدِيدِ عَلَيْهَا، وَالرَّغْبَةِ التَّامَّةِ فِي الْوُصُولِ إليها وحينئذ ينعقد هاهنا قياف، وهون أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجِسْمَانِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَالِبًا لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ وَمَا دَامَ يَطْلُبُهَا كَانَ فِي عَيْنِ الْآفَاتِ وَفِي لُجَّةِ الْحَسَرَاتِ، وَهَذَا اللَّازِمُ مَكْرُوهٌ فَالْمَلْزُومُ أَيْضًا مَكْرُوهٌ فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى زَوَالَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَالسَّبَبُ فِي الْأُمُورِ/ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْمَوْتِ أَنَّ مُوجِبَاتِ هَذِهِ اللَّذَّةِ الْجِسْمَانِيَّةِ مُتَكَرِّرَةٌ وَلَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَالتَّكْرِيرُ يُوجِبُ الْمَلَالَةَ أَمَّا سَعَادَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.

قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ وَهُوَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ أَنَارَ اللَّه بُرْهَانَهُ. أَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمُتَوَغِّلُ فِيهَا، وَلَوْ فَتَحْتُ الْبَابَ وَبَالَغْتُ فِي عُيُوبِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ فَرُبَّمَا كَتَبْتُ الْمُجَلَّدَاتِ وَمَا وَصَلْتُ إِلَى الْقَلِيلِ مِنْهَا فَلِهَذَا السَّبَبِ صِرْتُ مُوَاظِبًا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْإِسْلَامِ وَإِبْقَاءَهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ طَلَبُهُ مِنَ اللَّه فَاسِدًا وَتَقْرِيرُهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ افْعَلْ يَا مَنْ لَا يَفْعَلُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَبَدًا يُشَنِّعُونَ عَلَيْنَا وَيَقُولُونَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنَ اللَّه فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَبْدِ افْعَلْ مَعَ أَنَّكَ لَسْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>