للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبَرَاءَتُهُمْ عَنِ الصِّفَاتِ الْقَادِحَةِ فِي التَّبْلِيغِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَالْأَصْلُ فِي الْوَعْدِ وَمِنْ قَوْمِهِ وَمِنْهُ صَدَقُوهُمُ الْمَقَالَ: وَمَنْ نَشاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ مِنْهُ/ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَعْدُهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَهْلِكُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ دُونَ نَفْسِ الرُّسُلِ وَدُونَ مَنْ صَدَّقَ بِهِمْ، وَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِمَا وَعَدَ صِدْقًا مِنْ حَيْثُ يَكْشِفُ عَنِ الصِّدْقِ وَمَعْنَى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أَيْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا مَضَى وَتَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ: ذِكْرُكُمْ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكُمْ وَصِيتُكُمْ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٤] . وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَكُمْ لِتَحْذَرُوا مَا لَا يَحِلُّ وَتَرْغَبُوا فِيمَا يَجِبُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، كَمَا قَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذَّارِيَاتِ: ٥٥] . وَثَالِثُهَا:

الْمُرَادُ ذِكْرُ دِينِكُمْ مَا يَلْزَمُ وَمَا لَا يَلْزَمُ لِتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ إِذَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ كَالْبَعْثِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُفَلَاءَ لِأَنَّ الْخَوْضَ مِنْ لَوَازِمِ الْغَفْلَةِ وَالتَّدَبُّرَ دَافِعٌ لِذَلِكَ الْخَوْضِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ فَمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْعَقْلِ.

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ١٥]

وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَكَانَتْ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتُ ظَاهِرَةَ السُّقُوطِ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْإِعْجَازِ لَمَّا تَمَّتْ فِي الْقُرْآنِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ لِكُلِّ عَاقِلٍ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِإِيرَادِ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ كَانَ لِأَجْلِ حُبِّ الدُّنْيَا وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ فِيهَا فَبَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقَصْمُ أَفْظَعُ الْكَسْرِ وَهُوَ الْكَسْرُ الَّذِي يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الأجزاء بخلاف الفصم وَذَكَرَ الْقَرْيَةَ وَأَنَّهَا ظَالِمَةٌ وَأَرَادَ أَهْلَهَا تَوَسُّعًا لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ ظَالِمَةً وَلَا مُكَلَّفَةً وَلِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا قَوْمًا وَأَنْشَأْنَا قَوْمًا آخَرِينَ وَقَالَ: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا- إِلَى قَوْلِهِ-: قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَهْلِهَا الَّذِينَ كُلِّفُوا بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهُمْ وَلَوْلَا هَذِهِ/ الدَّلَائِلُ لَمَا جَازَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذِكْرُ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مُوهِمًا لِلْكَذِبِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِهْلَاكِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالسُّيُوفِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ حَضُورُ وَهِيَ وَسَحُولُ قَرْيَتَانِ بِالْيَمَنِ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا الثِّيَابُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبَيْنِ سَحُولِيَّيْنِ»

وَرُوِيَ: «حَضُورِيَّيْنِ بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ كَمَا سَلَّطَهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَاسْتَأْصَلَهُمْ»

وَرُوِيَ: «أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ يَا لِثَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ»

فَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا بِالْخَطَأِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَقْرَبُ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَاتِلِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى عَذَابِ الْقَتْلِ فَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>