يُقَالُ الْحَبْسُ أَهْوَنُ مِنَ الْقَتْلِ مَعَ أَنَّهُ لاهين هُنَاكَ فَقَالَ: وَأَهْلَها دَفَعًا لِذَلِكَ الثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَهْلَها: فيه وجوه نبينها بعد ما نُبَيِّنُ مَعْنَى الْأَحَقِّ، فَنَقُولُ هُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَحَقُّ بِمَعْنَى الْحَقِّ لَا لِلتَّفْضِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَمَ: ٧٣] إِذْ لَا خَيْرَ فِي غَيْرِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ/ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ أَحَقُّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلِمَةِ التَّقْوَى مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تَقْوَى، تَقُولُ زِيدٌ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ مِنْهُ بِالْإِهَانَةِ، كَمَا إِذَا سَأَلَ شَخْصٌ عَنْ زيد إنه بالطب أعلم أو بالفقه، نقول هو بالفقه أعلم أي من الطلب.
[[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٧]]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
بَيَانٌ لِفَسَادِ مَا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ إِنْزَالِ اللَّهِ السَّكِينَةَ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ عَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْقِتَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ وَيُتِمُّونَ الْحَجَّ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ وَقْتًا فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَطَعُوا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَظَنُّوا أَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامَ الْفَتْحِ فَلَمَّا صَالَحُوا وَرَجَعُوا قَالَ الْمُنَافِقُونَ اسْتِهْزَاءً مَا دَخَلْنَا وَلَا حَلَقْنَا فَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ كَكَلِمَةِ جَعَلَ وَخَلَقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ عُدِّيَ إِلَى الرُّؤْيَا بِحَرْفٍ تَقْدِيرُهُ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ جَعَلَهَا وَاقِعَةً بَيْنَ صِدْقِ وَعْدِهِ إِذْ وَقَعَ الْمَوْعُودُ بِهِ وَأَتَى بِهِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ مَا أَرَاهُ اللَّهُ لَمْ يَكْذِبْ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ سَتَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ صَدَقَ ظَاهِرًا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الصِّدْقِ فِي الْكَلَامِ ظَاهِرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ صَدَقَ اللَّهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُحَقِّقُ الْمَنَامَ وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا يُقَالُ صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ مَثَلًا وَفِيمَا إِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ الَّذِي يُرِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا قِيلَ لَهُ هِدَعْ سَكَنَ فَحَقَّقَ كَوْنَهُ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ، فَإِنَّ هِدَعْ كَلِمَةٌ يُسَكَّنُ بِهَا صِغَارُ الْإِبِلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْحَقِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ حَالٌ أَوْ قَسَمٌ أو صفة صدق، وعلى كونه حال تَقْدِيرُهُ صَدَقَهُ الرُّؤْيَا مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ صِفَةً تَقْدِيرُهُ صَدَقَهُ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ قَسَمًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ هَذَا مَا قَالَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ [إِنَّ] فِيهِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ فيه تقديم/ تأخير تَقْدِيرُهُ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَقِّ الرُّؤْيَا، أَيِ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ الْكَذِبِ فِي الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَسُولًا بِالْحَقِّ فَلَا يَرَى فِي مَنَامِهِ الْبَاطِلَ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ قَسَمٌ فَأَمْرُ اللَّامِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَتَقْدِيرُهُ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ، وَاللَّهِ لَتَدْخُلُنَّ، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَتَدْخُلُنَّ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلرُّؤْيَا يَعْنِي الرُّؤْيَا هِيَ: وَاللَّهِ لَتُدْخُلُنَّ، وَعَلَى هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ صَدَقَ اللَّهُ كَانَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ كَلَامًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ يَعْنِي وَاللَّهِ لَيَقَعَنَّ الدُّخُولُ وليظهرن الصدق فلتدخلن ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ شاءَ اللَّهُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَهُ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ الْأَدَبَ وَتَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute