وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ لَفْظَ عَسى هاهنا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا صَدَرَ عَنْ رَسُولٍ ظَهَرَتْ حُجَّةُ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ أَفَادَ قُوَّةَ النَّفْسِ وَأَزَالَ مَا خَامَرَهَا مِنَ الِانْكِسَارِ وَالضَّعْفِ فَقَوَّى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَحَقَّقَ عِنْدَهُمُ الْوَعْدَ لِيَتَمَسَّكُوا بِالصَّبْرِ وَيَتْرُكُوا الْجَزَعَ الْمَذْمُومَ ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَثِّ لَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّظَرُ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِانْتِظَارُ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَيَجِبُ حمل اللفظ هاهنا عَلَيْهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَرَى ذَلِكَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمْ هَذَا النَّظَرَ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَزِمَ الْإِشْكَالُ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حُصُولِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْنَا: تَعَلُّقُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الشَّيْءِ نِسْبَةٌ حَادِثَةٌ وَالنَّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي/ الْأَعْيَانِ فَلَمْ يَلْزَمْ حدوث الصفة الحقيقة في ذات الله تعالى والله اعلم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [الأعراف: ١٢٩] لا جرم بدا هاهنا بِذِكْرِ مَا أَنْزَلَهُ بِفِرْعَوْنَ وَبِقَوْمِهِ مِنَ الْمِحَنِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ إِلَى أَنْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْهَلَاكِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّمَسُّكِ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْمِحَنِ بِهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السنين جميع السَّنَةِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: السَّنَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَادُ بِهَا- الْحَوْلُ وَالْعَامُ- وَالْآخَرُ يُرَادُ بِهَا- الْجَدْبُ- وَهُوَ خِلَافُ الْخِصْبِ فَمِمَّا أُرِيدَ بِهِ الْجَدْبُ هَذِهِ الْآيَةُ
وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يُوسُفَ»
وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا لَا نَقَعُ فِي عَامِ السَّنَةِ فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ يُعْنَى بِهَا الْجَدْبُ اشْتَقُّوا مِنْهَا كَمَا يُشْتَقُّ مِنَ الْجَدَبِ وَيُقَالُ: أَسْنَتُوا كَمَا يُقَالُ أَجْدَبُوا. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: بَعْضُ الْعَرَبِ تَقُولُ هَذِهِ سِنِينٌ وَرَأَيْتُ سِنِينًا فَتُعْرِبُ النُّونَ. وَنَحْوَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فان سنينه ... لعبن بنا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدًا
قَالَ الزَّجَّاجُ: السِّنِينُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْجُدُوبُ يُقَالُ مَسَّتْهُمُ السَّنَةُ وَمَعْنَاهُ: جَدْبُ السَّنَةِ وَشِدَّةُ السَّنَةِ.