مَعْذِرَتُهُمْ
لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْأَعْذَارَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عُذْرٌ مَقْبُولٌ نَافِعٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ أَمْ لَا. وَأَيْضًا فَيُقَالُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ فَيَعْتَذِرُونَ فِي وَقْتٍ وَلَا يَعْتَذِرُونَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ النُّصْرَةِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِلْكَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَتْبَاعِهِ وَكَادَهُمْ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ النُّبُوَّةَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى بَقِيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِيهِمْ وَتَوَارَثُوهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَائِرَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ كُتُبُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ، والفرق بين الهدى والذكرى أن الْهُدَى مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الشَّيْءِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا آخَرَ كَانَ مَعْلُومًا ثُمَّ صَارَ مَنْسِيًّا، وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ الذي يكون كَذَلِكَ فَكُتُبُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَعْضُهَا دَلَائِلُ فِي أَنْفُسِهَا، وَبَعْضُهَا مُذَكِّرَاتٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَضَرَبَ الْمِثَالَ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مُوسَى وَخَاطَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلّم فقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَاللَّهُ نَاصِرُكَ كَمَا نَصَرَهُمْ وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ فِي حَقِّكَ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ التَّوْبَةِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْبَغِي، وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الذَّاتِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ، أَمَّا التَّوْبَةُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَالطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ/ وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ، أَوْ عَلَى مَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ أَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَحْضُ التَّعَبُّدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٤] فَإِنَّ إِيتَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبٌ ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَنَا بِطَلَبِهِ، وَكَقَوْلِهِ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الْأَنْبِيَاءِ: ١١٢] مِنْ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقِيلَ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَقَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِ أُمَّتِكَ فِي حَقِّكَ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِمَا يَنْبَغِي فَهُوَ قَوْلُهُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ وَالتَّسْبِيحُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْعَشِيُّ وَالْإِبْكَارُ، قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقِيلَ الْإِبْكَارُ، عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى النِّصْفِ، وَالْعَشِيُّ عِبَارَةٌ عَنِ النِّصْفِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ الْأَوْقَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ طَرَفَا النَّهَارِ، كَمَا قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: ١١٤] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَفْتُرَ اللِّسَانُ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَغْفُلَ الْقَلْبُ عَنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا السَّبَبِ دَاخِلًا فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي وَصْفِهِمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: ٢٠] والله أعلم.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute