للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِيهِ لَعَظُمَتِ الْمَشَقَّةُ وَدَخَلَتِ الْمَرَافِقُ فِي الْغَسْلِ أَخْذًا بِالْأَوْثَقِ، ثُمَّ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ مُجْمَلٌ أَوْ غَيْرُ مُجْمَلٍ، فَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ، وَهُوَ مَا

رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي فِي هَذَا الْوَقْتِ.

فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ شَيْئًا، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا

رَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، أَيْ كَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» ،

وَقِيلَ فِيهِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَالثَّانِي:

أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنِّي عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنِّي لَوِ احْتَجْتُ إِلَى الطَّعَامِ أَطْعَمَنِي مُوَاصِلًا» ،

وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَبِرَ جَعَلَهَا خَمْسًا، فَلَمَّا كَبِرَ جِدًّا جَعَلَهَا ثَلَاثًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَوْ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ، فَعَلَى ذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ فِي الِاسْتِيفَاءِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْمَرْءُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي صَوْمِ الْمُسْتَأْنَفِ، أَوْ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الطَّعَامِ قَدْرًا يَزُولُ بِهِ هَذَا الْخَوْفُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّيْلَ مَا هُوَ؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: آخِرُ النَّهَارِ عَلَى أَوَّلِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي حُصُولِ اللَّيْلِ زَوَالَ آثَارِ الشَّمْسِ، كَمَا حَصَلَ اعْتِبَارُ زَوَالِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ آثَارِ الشَّمْسِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِزَوَالِ الْحُمْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ ظُهُورَ الظَّلَامِ التَّامِّ وَظُهُورَ الْكَوَاكِبِ، إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ عُمَرُ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ التَّبْيِيتَ وَالتَّعْيِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، قَالُوا:

الصَّوْمُ فِي اللغة هو الإمساك، وقد وجد هاهنا فَيَكُونُ صَائِمًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَعُسْرٌ وَهُوَ منفي بقوله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: ٧٨] وَقَوْلِهِ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّوْمِ الصَّحِيحِ فَيَبْقَى غَيْرُ الصَّحِيحِ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ نَقُولُ: مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ، أَنْ يَصِحَّ صَوْمُ/ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: الْأَقَلُّ يَلْحَقُ بِالْأَغْلَبِ فَلَا جَرَمَ أَبْطَلْنَا الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ وَصَحَّحْنَا نِيَّتَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ يَجِبُ إِتْمَامُهُ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الصِّيَامَاتِ، وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ صَوْمِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمَ الْفَرْضِ.

الْحُكْمُ السَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الِاعْتِكَافُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الصَّوْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ حُكْمِهِ تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ، كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ الصَّوْمِ فِي أَنَّ الْجِمَاعَ يَحْرُمُ فِيهِ نَهَارًا لَا لَيْلًا، فَبَيَّنَّ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ فِيهِ نَهَارًا وَلَيْلًا، فَقَالَ: