إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومٍ سَلْبِيٍّ وَالْأَعْلَى مِثْلُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْأَعْلَى مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالْأَعْظَمُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا، وَفِيهِ مَعْنًى سَلْبِيٌّ، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَظِيمِ مَفْهُومٌ ثُبُوتِيٌّ لَا سَلْبَ فِيهِ فَالْأَعْلَى أَحْسَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الأعظم هذا هو الفرق. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)
[في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آتَاهُ كُلَّ مَا يَنْبَغِي له وطهره عن كل مالا يَنْبَغِي لَهُ فَآتَاهُ الْحِكْمَةَ وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى وُجُوهِهَا، وَالْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ وَهِيَ الْأُمُورُ الْمُفِيدَةُ الْمُرَقِّقَةُ لِلْقُلُوبِ الْمُنَوِّرَةُ لِلصُّدُورِ، وَالْمُجَادَلَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ فَأَتَى بِهَا وَعَجَزَ الْكُلُّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَالَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِ، كُلُّ ذَلِكَ وَلَا يُؤْمِنُ لَا يَبْقَى لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْبَيَانُ لَيْسَ لِظُهُورِ الْمُدَّعَى بَلْ لِقُوَّةِ ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَقُوَّتِهِ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِقُوَّةِ جِدَالِهِ لَا بِظُهُورِ مَقَالِهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَحَدُ الْمُنَاظِرَيْنِ لِلْآخَرِ عِنْدَ/ انْقِطَاعِهِ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِي لَكِنْ تَسْتَضْعِفُنِي وَلَا تُنْصِفُنِي وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلْخَصْمِ جَوَابٌ غَيْرَ الْقَسَمِ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَخَارِجَ عَنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُكَابِرٍ وَأَنَّهُ مُنْصِفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِدَلِيلٍ آخَرَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ أَيْضًا غَلَبْتَنِي فِيهِ بِقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا آتَاهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ مَا يَنْبَغِي قَالُوا: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّفَضُّلَ عَلَيْنَا وَهُوَ يُجَادِلُنَا فِيمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقْسِمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَسَمِ بَعْدَ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا كَثُرَتِ الْأَيْمَانُ فِي أَوَائِلِ التَّنْزِيلِ وَفِي السُّبُعِ الْأَخِيرِ خَاصَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ، نَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَهُ الْعَظَمَةُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَسَمُ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ. فَلا أُقْسِمُ مَعَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّهُ قَسَمٌ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ مَنْقُولَةٌ وَمَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَأَحَدُهَا: أَنَّ (لَا) زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الْحَدِيدِ:
٢٩] مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ ثَانِيهَا: أَصْلُهَا لَأُقْسِمُ بِلَامِ التَّأْكِيدِ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا فَصَارَتْ لَا كَمَا فِي الْوَقْفِ ثَالِثُهَا: لَا، نَافِيَةٌ وَأَصْلُهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ وَالْقَسَمُ بَعْدَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا، واللَّه لَا صِحَّةَ لِقَوْلِ الْكُفَّارِ أُقْسِمُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا هِيَ نَافِيَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا غَيْرَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَجَازًا تَرْكِيبِيًّا، وَتَقْدِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا فِي النَّفْيِ هُنَا كَهِيَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَسْأَلْنِي عَمَّا جَرَى عَلَيَّ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُشْرَحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ فَإِنَّ غَرَضَهُ مِنَ السُّؤَالِ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ إِلَّا بَيَانَ عَظَمَةِ الْوَاقِعَةِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: جَرَى عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السَّامِعَ يَقُولُ لَهُ مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَوْ فَهِمَ مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ لَمَا قَالَ:
مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ، فَيَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَخْطَأْتُ حَيْثُ مَنَعْتُكَ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ سَأَلْتَنِي وَكَيْفَ لَا، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَائِلُ الَّذِي قال: لا تسألني عند سكون صَاحِبِهِ عَنِ السُّؤَالِ، أَوْ لَا تَسْأَلْنِي، وَلَا تَقُولُ: مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَا يَكُونُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ مَنَعْتَنِي عَنِ السُّؤَالِ كُلُّ ذَلِكَ تَقَرَّرَ فِي أَفْهَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ تَعْظِيمُ الْوَاقِعَةِ لَا النَّهْيُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْقَسَمِ: مِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا لِكَوْنِ الْوَاقِعَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فيقول: لا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute