الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْآخِرَةُ دَارَ الْإِقَامَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ: (مَجْزِيِّينَ) فَالتَّفْسِيرُ مِثْلُ هَذَا كَأَنَّهُ قَالَ: سَتُصَدِّقُونَ وَقْتَ النَّزْعِ رُسُلَ اللَّه فِي الْحَشْرِ، فَإِنْ كُنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّ التَّعْوِيقَ لِلْجَزَاءِ لَا غَيْرُ، وَلَوْلَا الْجَزَاءُ لَكُنْتُمْ مُخْتَارِينَ كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ الْجَزَاءِ مُخْتَارِينَ تَكُونُونَ حَيْثُ تُرِيدُونَ مِنَ الْأَمَاكِنِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: مَمْلُوكِينَ مِنَ الملك، ومنه المدينة للمملوكة، فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ بِمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ، فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ جَزَاءٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَهَى أَنْفُسِكُمْ وَمُنَى قُلُوبِكُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ بِالطَّبَائِعِ، وَأَنَّ الْأَمْطَارَ مِنَ السُّحُبِ، وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ، وَالنَّبَاتُ كَذَلِكَ، وَالْحَيَوَانُ كَذَلِكَ، وَلَا اخْتِيَارَ للَّه فِي شَيْءٍ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ إِنْكَارُ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ فَمَا بَالُ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَدَّعِي الْعِلْمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُرْجِعَ النَّفْسَ مِنَ الْحُلْقُومِ، مَعَ أَنَّ فِي الطَّبْعِ عِنْدَهُ إِمْكَانًا لِذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الْبَقَاءَ بالغداء ولزوال الْأَمْرَاضِ بِالدَّوَاءِ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مَدِينِينَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَمْلُوكِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ الِاخْتِيَارِ وَقَلْبِ الْأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ اللَّه، وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مُقِيمِينَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، وَإِنْ قُلْنَا:
غَيْرَ/ مُحَاسَبِينَ وَمَجْزِيِّينَ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ وَالْحَشْرَ بَعْدَهُ لَازِمٌ، بَيَّنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَزَاجِرًا للمتمرد عن العصيان والكذب فقال:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
هَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِهِ مَعْنًى، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ لَفْظًا فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها [الواقعة:
٨٦، ٨٧] وَكَانَ فِيهَا أَنَّ رُجُوعَ الْحَيَاةِ وَالنَّفْسِ إِلَى الْبَدَنِ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الدُّنْيَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَائِمُونَ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ وَمَجْزِيُّونَ، فَالْمَجْزِيُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَلَهُ الرُّوحُ وَالرَّيْحَانُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الرُّوحِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ الرَّحْمَةُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: ٨٧] أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه الثَّانِي: الرَّاحَةُ الثَّالِثُ: الْفَرَحُ، وَأَصْلُ الرَّوْحِ السَّعَةُ، وَمِنْهُ الرَّوْحُ لِسَعَةِ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ دُونَ الْفَحَجِ، وَقُرِئَ، فَرَوْحٌ بِضَمِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَهُ رَوْحٌ أَفْصَحَتِ الْفَاءُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاءَ الْجَزَاءِ لِرَبْطِ الْجُمْلَةِ بِالشَّرْطِ فَعُلِمَ كَوْنُهَا جَزَاءً، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ مَاضِيًا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ جَزَاءً بِالْجَزْمِ الظَّاهِرِ فِي السَّمْعِ وَالْخَطِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْجَزْمَ، أَمَّا غَيْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلِأَنَّ الْجَزْمَ فِيهِمَا لَيْسَ لِكَوْنِهِمَا جَزَاءَيْنِ فَلَا عَلَامَةَ لِلْجَزَاءِ فِيهِ، فَاخْتَارُوا الْفَاءَ فَإِنَّهَا لِتَرْتِيبِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، وَالْجَزَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّيْحَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ [الرحمن: ١٢] ولكن هاهنا فيه كلام، فمنهم من قال: المراد هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ ثَمَّةَ، إِمَّا الْوَرَقُ وَإِمَّا الزَّهْرُ وَإِمَّا النَّبَاتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute