إِلَى إِنْسَانٍ قَادِرٍ كَالسُّلْطَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، وَكَذَا مَنْ أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ رَجَاءً فِي خَيْرِهِ أَوْ عِوَضًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا/ فَالْمَغْفِرَةُ إِذَا ذُكِرَتْ قَبْلَ الرَّحْمَةِ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ سَتَرَ عَيْبَهُ ثُمَّ رَآهُ مُفْلِسًا عَاجِزًا فَرَحِمَهُ وَأَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ، وَإِذَا ذُكِرَتِ الْمَغْفِرَةُ بَعْدَ الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَلِيلٌ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ مَالَ إِلَيْهِ لِعَجْزِهِ فَتَرَكَ عِقَابَهُ وَلَمْ يقتصر عليه بل ستر ذنوبه. ثم قال تعالى:
[[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَقْرِيرٌ لِصِحَّةِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّزَوُّجِ بِزَيْنَبَ وَكَأَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ هَبْ أَنَّ الْأَدْعِيَاءَ لَيْسُوا بِأَبْنَاءٍ كَمَا قُلْتَ لَكِنَّ مَنْ سَمَّاهُ غَيْرُهُ ابْنًا إِذَا كَانَ لِدَعِيِّهِ شَيْءٌ حَسَنٌ لَا يَلِيقُ بِمُرُوءَتِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَطْعَنَ فِيهِ عُرْفًا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ دَفْعَ الْحَاجَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَجَانِبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ عَلَى حَوَاشِي النَّسَبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ النَّفْسِ، وَالْأَوَّلُ عُرْفًا دُونَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ شَرْعًا فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةُ عَنْهُمْ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي دُونَ الثَّالِثِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ بِدَلِيلِ النَّفَقَةِ وَالثَّالِثُ دُونَ الرَّابِعِ فَإِنَّ النَّفْسَ تُقَدَّمُ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يُغَطِّي بِهِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَةً عَنْ أَحَدِ شِقَّيْ بَدَنِهِ، فَلَوْ أَخَذَ الْغِطَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَغَطَّى بِهِ الْآخَرَ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ بِئْسَمَا فَعَلْتَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ أَشْرَفَ مِنَ الْآخَرِ مِثْلَ مَا إِذَا وَقَى الْإِنْسَانُ عَيْنَهُ بِيَدِهِ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ عَنْ رَأْسِهِ الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ حَوَاسِّهِ وَيَتْرُكُ رِجْلَهُ تَبْرُدُ فَإِنَّهُ الْوَاجِبُ عَقْلًا، فَمَنْ يَعْكِسُ الْأَمْرَ يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَلَوْ دَفَعَ الْمُؤْمِنُ حَاجَةَ نَفْسِهِ دُونَ حَاجَةِ نَبِيِّهِ يَكُونُ مَثَلُهُ مَثَلَ مَنْ يَدْهُنُ شَعْرَهُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ فِي بَرْدٍ مُفْرِطٍ قَاصِدًا بِهِ تَرْبِيَةَ شَعْرِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِي رَأْسَهُ الَّذِي لَا نَبَاتَ لِشَعْرِهِ إِلَّا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ دَفْعُ حَاجَةِ النَّفْسِ فَرَاغُهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْعِبَادَةِ إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَوْ دَفَعَ الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ لَا لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ لَيْسَ/ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ مَا هُوَ فَوْقَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاجَةً وَإِذَا كَانَ لِلْعِبَادَةِ فَتَرْكُ النَّبِيِّ الَّذِي مِنْهُ يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْعِبَادَةِ فِي الْحَاجَةِ وَدَفْعِ حَاجَةِ النَّفْسِ مِثْلُ تَرْبِيَةِ الشَّعْرِ مَعَ إِهْمَالِ أَمْرِ الرَّأْسِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا حَرُمَ عَلَى الْأُمَّةِ التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ الْوَاضِحَةِ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تقريرا آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْأُمِّ إِلَّا لِقَطْعِ نَظَرِ الْأُمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِامْرَأَةٍ شَارَكَتِ الزَّوْجَاتِ فِي التَّعَلُّقِ فَحَرُمَتْ مِثْلَ مَا حَرُمَتْ أَزْوَاجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَالَ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَيْرَ مَنْ وَلَدَتْ لَا تَصِيرُ أُمًّا بِوَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: ٢] فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى في
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute