للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ آيَةً مُوَافِقَةً لِقَوْلِ الرَّسُولِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالتَّفْسِيرُ ظَاهِرٌ، وَلِمُنْكِرِيِ الْقِيَاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَالَبَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الْحُكْمِ فِي التَّوْرَاةِ عَدَمُهُ، لِأَنَّا نُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النِّزَاعَ مَا وَقَعَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ، هَلْ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمْ لَا؟

وَمِثْلُ هَذَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِالنَّصِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى طَالَبَهُمُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِنَصِّ التَّوْرَاةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

الِافْتِرَاءُ اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، وَالْفِرْيَةُ الْكَذِبُ وَالْقَذْفُ، وَأَصْلُهُ مِنْ فَرْيِ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَطْعُهُ، فَقِيلَ لِلْكَذِبِ افْتِرَاءٌ، لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَقْطَعُ بِهِ فِي/ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ فِي الْوُجُودِ.

ثُمَّ قَالَ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ

أَيْ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ يَعْقُوبَ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

الْمُسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ ظُلْمٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ أَضَلُّوهُ عَنِ الدِّينِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ويحتمل وجوهاًأحدها: قُلْ صَدَقَ فِي أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الطَّعَامِ صَارَ حَرَامًا عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَوْلَادِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلَالًا لَهُمْ، فَصَحَّ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ، وَبَطَلَتْ شُبْهَةُ الْيَهُودِ وَثَانِيهَا: صَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفْتَى بِحِلِّ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا، فَقَدْ أَفْتَى بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَثَالِثُهَا: صَدَقَ اللَّهُ فِي أَنَّ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهَا إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى الْيَهُودِ جَزَاءً عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيِ اتَّبِعُوا مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَسَوَاءٌ قَالَ: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَوْ قَالَ: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ لِأَنَّ الْحَالَ وَالصِّفَةَ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى.

ثُمَّ قَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَمْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا عَبَدَ سِوَاهُ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ كَمَا فَعَلَهُ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَوْ كَمَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ من ادعاء أن عزير ابْنُ اللَّهِ، وَكَمَا فَعَلَهُ النَّصَارَى مِنَ ادِّعَاءِ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ.

أَمَّا في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بِحِلِّهِ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ حَكَمَ بِحِلِّهِ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي الْأُصُولِ فَلِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ إلا على هذا الدين.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)

[قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ طَعَنَ الْيَهُودُ فِي نُبُوَّتِهِ،