وَقَالُوا إِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَأَحَقُّ/ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وُضِعَ قَبْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَقِبْلَةُ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَاطِلًا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَشْرَفُ، فَكَانَ جَعْلُهَا قِبْلَةً أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَيَانُ أَنَّ النَّسْخَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَنَّ الْأَطْعِمَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ بَعْضَهَا، وَالْقَوْمُ نَازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَأَعْظَمُ الْأُمُورِ الَّتِي أَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ نَسْخَهَا هُوَ الْقِبْلَةُ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ مَا لِأَجْلِهِ حُوِّلَتِ الْكَعْبَةُ، وَهُوَ كَوْنُ الْكَعْبَةِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٥] وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ شِعَارِ مِلَّةٍ إِبْرَاهِيمَ الْحَجُّ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ إِيجَابَ الْحَجِّ الرَّابِعُ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى زَعَمَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كَذِبَهُمْ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَجَّ الْكَعْبَةِ كَانَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى كَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ الْأَوَّلُ: هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، فَإِذَا قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ يُعْتَقْ أَحَدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْفَرْدُ، ثُمَّ لَوِ اشْتَرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَبْدًا وَاحِدًا لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِ كَوْنُهُ سَابِقًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ، بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلنَّاسِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْبُيُوتِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخْتَصًّا بِوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ الْبُيُوتِ مَوْضُوعًا لِلنَّاسِ، وَكَوْنُ الْبَيْتِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْضُوعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَقِبْلَةً لِلْخَلْقِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ وَضَعَهُ اللَّهُ مَوْضِعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُ هَذَا الْبَيْتِ قِبْلَةً لِلصَّلَوَاتِ، وَمَوْضِعًا لِلْحَجِّ، وَمَكَانًا يَزْدَادُ ثَوَابُ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَوْنُهُ أَوَّلًا فِي هَذَا الْوَصْفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ يُشَارِكُهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا وُجُوبُ حَجِّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَوَّلِ: فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ حَصَلَ عَقِيبَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، يُقَالُ: هَذَا أَوَّلُ قُدُومِي مَكَّةَ، وَهَذَا أَوَّلُ مَالٍ أَصَبْتُهُ/ وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ مَلَكْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ عَبْدًا عُتِقَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ، فَكَذَا هُنَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أَيْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِطَاعَاتِ النَّاسِ وَعِبَادَاتِهِمْ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ بَيْتًا مَوْضُوعًا لِلطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا»
فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي صِدْقِ كَوْنِ الْكَعْبَةِ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مُشَارِكًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أَوَّلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute