للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ عَلَى ذِكْرِ النُّورِ لِأَجْلِ أَنَّ الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ النُّورِ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ إِنْسَانٌ بِقُرْبِ السِّرَاجِ، وَجَلَسَ إِنْسَانٌ آخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَعِيدَ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا، وَأَمَّا الْقَرِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ ليست كيفية وجودية.

وإذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا، فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّحَقُّقِ عَلَى النُّورِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا فِي اللَّفْظِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا

يُرْوَى فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَرَ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالنُّورَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ حَمَلَ الظُّلُمَاتِ على الكفر والنور على الإيمان، فكلامه هاهنا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ النُّورَ عِبَارَةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْكَامِلَةِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْبَلُ التَّنَاقُصَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتِلْكَ الْمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ. فَلِهَذَا السَّبَبِ عَبَّرَ عَنِ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ. يُقَالُ: عَدَلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا سَوَّاهُ بِهِ، وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عُطِفَ قَوْلُهُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّه حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا نِعْمَةً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَيَكْفُرُونَ بِنِعْمَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على معنى أن خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ جَمَادًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى ثُمَّ؟

قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَعْدِلُوا بِهِ بَعْدَ وُضُوحِ آيَاتِ قدرته واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَائِلَ إثبات الصانع تعالى، ويحتمل أن لا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ وَصِحَّةِ الْحَشْرِ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ: أن اللَّه تعالى لما استدل بخلقه السموات وَالْأَرْضَ وَتَعَاقُبِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ أَتْبَعَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>