للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ وَمَا قَالَ: مَا أَنْتَ بِهَادٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزُّمَرِ: ٣٦] .

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْعَبِيدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الكفار، كما في قوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس: ٣٠] يعني أعذبهم وما أن بِظَلَّامٍ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُؤْمِنِينَ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ أَبْدَلْتُ الْقَوْلَ وَرَحِمْتُ الْكَافِرَ، لَكُنْتُ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادِ ظَالِمًا لِعِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنِّي مَنَعْتُهُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ لِأَجْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ يَنَالُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا أَتَى الْمُؤْمِنُ مَا يَنَالُهُ الْمُؤْمِنُ، لَكَانَ إِتْيَانُهُ بِمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الْحَشْرِ: ٢٠] وَمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاءِ: ٩٥] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التعميم. ثم قال تعالى:

[[سورة ق (٥٠) : آية ٣٠]]

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)

الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَاذَا؟ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا أَنَا بِظَلَّامٍ مُطْلَقًا وَالثَّانِي: الْوَقْتُ، حَيْثُ قَالَ مَا أَنَا يَوْمَ كَذَا، ولم يقل: ما أنا بِظَلَّامٍ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ؟ نَقُولُ النَّفْيُ الْخَاصُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ لِأَنَّ الْمُتَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَاصِرَ النَّظَرِ يَقُولُ: يَوْمَ يُدْخِلُ اللَّهُ عَبْدَهُ الضَّعِيفَ جَهَنَّمَ يَكُونُ ظَالِمًا لَهُ، وَلَا يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ يَرْزُقُهُ وَيُرَبِّيهِ يَكُونُ ظَالِمًا، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ عَبْدَهُ بِإِدْخَالِهِ النَّارَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَ عَبِيدِهِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَنْ يُدْخِلُ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَجُوزُهُ حَدٌّ، ولا يدركه عد النار، ويتركهم فيها زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَثِيرُ الظُّلْمِ، فَنَفَى مَا يُتَوَهَّمُ دُونَ مَا لَا يُتَوَهَّمُ، وَقَوْلُهُ هَلِ امْتَلَأْتِ بَيَانٌ لِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وَقَوْلُهُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَيَانِ اسْتِكْثَارِهَا الدَّاخِلِينَ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَضْرِبُ غَيْرَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، أَوْ يَشْتُمُهُ شَتْمًا قَبِيحًا فَاحِشًا، وَيَقُولُ الْمَضْرُوبُ: هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ!، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَمْلَأَنَّ لِأَنَّ الِامْتِلَاءَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ، فَلَا يَبْقَى فِي جَهَنَّمَ مَوْضِعٌ خَالٍ حَتَّى تَطْلُبَ الْمَزِيدَ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهَا تَطْلُبُ الزِّيَادَةَ، وَحِينَئِذٍ لَوْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ يُفْهَمُ مَعَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

لَأَمْلَأَنَّ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ رُبَّمَا يَقَعُ قَبْلَ إِدْخَالِ الْكُلِّ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَتَغَيَّظُ عَلَى الْكُفَّارِ فَتَطْلُبُهُمْ، ثُمَّ يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَطْلُبُ جَهَنَّمُ امْتِلَاءَهَا لِظَنِّهَا بَقَاءَ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ خَارِجًا، فَيُدْخَلُ الْعَاصِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُبْرِدُ إِيمَانُهَ حَرَارَتَهَا، وَيُسْكِنُ إِيقَانُهُ غَيْظَهَا فَتَسْكُنُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ جَهَنَّمَ تَطْلُبُ الزِّيَادَةَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ، وَالْمُؤْمِنُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى ذَلِيلٌ مُتَوَاضِعٌ لِلَّهِ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ تَطْلُبُ أَوَّلًا سِعَةً فِي نَفْسِهَا، ثُمَّ مَزِيدًا فِي الدَّاخِلِينَ لِظَنِّهَا بَقَاءَ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارٍ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلْءَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَإِنَّ الْكَيْلَ إِذَا مُلِئَ مِنْ غَيْرِ كَبْسٍ صَحَّ أَنْ يُقَالَ:

مُلِئَ وَامْتَلَأَ، فَإِذَا كُبِسَ يَسَعُ غَيْرَهُ ولا ينافي كونه ملآن أو لا، فَكَذَلِكَ فِي جَهَنَّمَ مَلَأَهَا اللَّهُ ثُمَّ تَطْلُبُ زِيَادَةً تَضْيِيقًا لِلْمَكَانِ عَلَيْهِمْ وَزِيَادَةً فِي التَّعْذِيبِ، وَالْمَزِيدُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ هل بقي أحد تزيد به. ثم قال تعالى:

[[سورة ق (٥٠) : آية ٣١]]

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)

<<  <  ج: ص:  >  >>