للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الكثيرة من النعم على المسلمين. قال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَاهُمْ فِي الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّه وَرَسُولَهُ.

قَالَ الزجاج: اقُّوا

جَانَبُوا، وَصَارُوا فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ الْمُؤْمِنِينَ، والشق الجانب واقُّوا اللَّهَ

مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى: شَاقُّوا أَوْلِيَاءَ اللَّه، وَدِينَ اللَّه.

ثم قال: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ

يَعْنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّه لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.

[[سورة الأنفال (٨) : آية ١٤]]

ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: ذلِكُمْ رُفِعَ لكونه خبر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكُمْ ابْتِدَاءً، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوهُ خَبَرٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَكُونُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، نَحْوَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ فِي الدَّارِ فَمُكْرَمٌ. أَمَّا أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ زَيْدًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، أَيْ فَهُوَ مُنْطَلِقٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ صِفَةَ عِقَابِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي الْآخِرَةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُؤَجَّلِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ ذَوْقًا، لِأَنَّ الذَّوْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا تَعَرُّفَ طَعْمِ الْيَسِيرِ لِيُعْرَفَ بِهِ حَالُ الْكَثِيرِ، فَعَاجِلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْآلَامِ فِي الدُّنْيَا كَالذَّوْقِ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّوْقَ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ سِوَى إِدْرَاكِ الطُّعُومِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: ٤٩]

وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الذَّوْقِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقٍ رُوحَانِيٍّ مُغَايِرٍ لِلطَّرِيقِ الجسماني.

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الزَّحْفِ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَزْحَفَ عَلَى إِسْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَشَبَّهَ بِزَحْفِ الصَّبِيِّ مَشْيَ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَذْهَبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبَتِهَا لِلْقِتَالِ، فَيَمْشِي كُلُّ فِئَةٍ مَشْيًا رُوَيْدًا إِلَى الْفِئَةِ الأخرى قبل التدني لِلضِّرَابِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: الزَّحْفُ الْمَشْيُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الزِّحَافُ فِي الشِّعْرِ يَسْقُطُ مِمَّا بَيْنَ حَرْفَيْنِ. حَرْفٌ فَيَزْحَفُ أَحَدُهُمَا إِلَى الآخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>