للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا، وَقِيلَ معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيرا لأساؤوا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: قَالَ فِي حَقِّ الَّذِينَ أَحْسَنُوا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَقَالَ فِي حَقِّ مَنْ أَسَاءَ: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَهُمْ مِنَ ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْحُسْنَى اسْمُ الْجَنَّةِ وَالسُّوءَى اسْمُ النَّارِ، فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَهُمْ وَمِنْ الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ كُلَّمَا يَزْدَادُ وَيَنْمُو فِيهِ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ يُوجِبُ مِلْكَ الثَّمَرَةِ، فَالْجَنَّةُ مِنْ حَيْثُ خُلِقَتْ تَرْبُو وَتَنْمُو للمحسنين، وأما الذين أساؤا، فالسوأى وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْعَاقِبَةِ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُسِيءِ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا الثَّالِثَةُ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحْسِنِ أَنَّ لَهُ الْحُسْنَى بِأَنَّهُ صَدَّقَ، وَذَكَرَ فِي المسيء أن له السوأى بِأَنَّهُ كَذَّبَ، لِأَنَّ الْحُسْنَى لِلْمُحْسِنِينَ فَضْلٌ وَالْمُتَفَضِّلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَفَضُّلُهُ لِسَبَبٍ يَكُونُ أَبْلَغَ، وَأَمَّا السُّوءَى لِلْمُسِيءِ عَدْلٌ وَالْعَادِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُ لِسَبَبٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا فَذَكَرَ السَّبَبَ فِي التَّعْذِيبِ وَهُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ فِي الثَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ١١]]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)

لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ لَمْ يَتْرُكْهُ دَعْوًى بِلَا بَيِّنَةٍ فَقَالَ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، يَعْنِي مَنْ خَلَقَ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَعْجِزُ عَنِ الرَّجْعَةِ وَالْإِعَادَةِ فَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يكون وقت الرجوع إليه فقال:

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٢ الى ١٣]

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَيَّنُ إِفْلَاسُهُمْ وَيَتَحَقَّقُ إِبْلَاسُهُمْ، وَالْإِبْلَاسُ يَأْسٌ مَعَ حَيْرَةٍ، يَعْنِي يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَكُونُ لِلْمُجْرِمِ يَأْسٌ مُحَيِّرٌ لَا يَأْسٌ هُوَ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّمَعَ إِذَا انْقَطَعَ بِالْيَأْسِ فَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوُّ أَمْرًا غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَسْتَرِيحُ الطَّامِعُ مِنَ الِانْتِظَارِ وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا بِالْإِبْقَاءِ لَهُ بوونه يَنْفَطِرُ فُؤَادُهُ أَشَدَّ انْفِطَارٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْيَأْسِ هُوَ الْإِبْلَاسُ وَلِنُبَيِّنَ حَالَ الْمُجْرِمِ وَإِبْلَاسَهُ بِمِثَالٍ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ مَثَلُهُ مَثَلُ مَنْ يَكُونُ فِي بُسْتَانٍ وَحَوَالَيْهِ الْمَلَاعِبُ وَالْمَلَاهِي، وَلَدَيْهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ وَيُبَاهِي، فَيُخْبِرُهُ صَادِقٌ بِمَجِيءِ عَدُوٍّ لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُ صَادٌّ، إِذَا جَاءَهُ لَا يُبْلِعُهُ رِيقًا، وَلَا يَتْرُكُ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ طَرِيقًا، فَيَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْخَلَاصِ فَيَقُولُ لَهُ طِفْلٌ أَوْ/ مَجْنُونٌ إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي أَنْتَ تَحْتَهَا لَهَا مِنَ الْخَوَاصِّ دَفْعُ الْأَعَادِي عَمَّنْ يَكُونُ تَحْتَهَا، فَيُقْبِلُ ذَلِكَ الْغَافِلُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مَلَاذَهُ مُعْتَمِدًا عَلَى الشَّجَرَةِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ فَيَجِيئُهُ الْعَدُوُّ وَيُحِيطُ بِهِ، فَأَوَّلُ مَا يُرِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ قَلْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَيَبْقَى مُتَحَيِّرًا آيِسًا، مُفْتَقِرًا، فَكَذَلِكَ الْمُجْرِمُ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَقْبَلَ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ وَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ الصَّادِقُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْزِيهِ، وَيَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِنَّ هَذِهِ الْأَخْشَابَ الَّتِي هِيَ الْأَوْثَانُ دَافِعَةٌ عَنْكِ كُلَّ بَأْسٍ، وَشَافِعَةٌ لَكَ عِنْدَ خُمُودِ الْحَوَاسِّ، فَاشْتَغَلَ بِمَا هُوَ فِيهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى غَيِّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَأَوَّلُ مَا أَرَتْهُ إِلْقَاءُ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ فَلَا يَجِدُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ طَرِيقٍ، وَيَحِقُّ عَلَيْهِ عَذَابُ الْحَرِيقِ، فَيَيْأَسُ حِينَئِذٍ أَيَّ إِيَاسٍ وَيُبْلِسُ أَشَدَّ إِبْلَاسٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>