وَارْتِفَاعِ الصَّارِفِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْتُوا بِهَا دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُعْجِزَةٌ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا حَالَهُ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَحِرٌ وَالْحَالُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ كَانُوا فِيهِ مُكَابِرِينَ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤ الى ٦]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ قالَ رَبِّي حِكَايَةً لِقَوْلِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قُلْ بِضَمِّ الْقَافِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ اللَّامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَقِيبَ مَا حَكَى عَنْهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْجَوَابِ لِمَا قَالُوهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمْ وَإِنْ أَخْفَيْتُمْ قَوْلَكُمْ، وَطَعْنَكُمْ فَإِنَّ رَبِّي عَالِمٌ بِذَلِكَ وَإِنَّهُ مِنْ وَرَاءِ عُقُوبَتِهِ، فَتَوَعَّدُوا بِذَلِكَ لِكَيْ لَا يَعُودُوا إِلَى مِثْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الكاشف» : فإن قلت فهلا قيل له يعلم لقوله: وأسروا النجوى [الأنبياء: ٣] قلت القول علام يَشْمَلُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ فَكَأَنَّ فِي الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِالسِّرِّ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ آكَدَ فِي بَيَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى نَجْوَاهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ: يَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ السِّرَّ آكَدُ مِنْ أَنْ يَقُولَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ تَرَكَ الْآكَدَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ/ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفُرْقَانِ: ٦] قُلْتُ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَجِيءَ بِالْآكَدِ فِي قَوْلِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَلَكِنْ يَجِيءُ بِالتَّوْكِيدِ مَرَّةً وَبِالْآكَدِ مَرَّةً أُخْرَى، ثم الفرق أنه قدم هاهنا أَنَّهُمْ أَسَرُّوا النَّجْوَى، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ رَبِّي يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوهُ، فَوَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ ذَلِكَ لِلْمُبَالِغَةِ وَثَمَّةَ قَصَدَ وَصْفَ ذَاتِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو كقوله: عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سَبَأٍ: ٤٨] ، عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ [سَبَأٍ: ٣] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ السَّمِيعَ عَلَى الْعَلِيمِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ الْكَلَامِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمُ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ [الأنبياء ٣] ثُمَّ قَالَ: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَحَكَى عَنْهُمْ ثَمَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ فَتَرْتِيبُ كَلَامِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَدَّعِي أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا للَّه تَعَالَى. سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِحْرًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَيْنَا كَوْنَهُ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَإِنِ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرَّكَاكَةِ وَالْفَصَاحَةِ قُلْنَا إنه افتراه، وَإِنِ ادَّعَيْنَا أَنَّهُ كَلَامٌ فَصِيحٌ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ فَصَاحَةِ سَائِرِ الشُّعَرَاءِ، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ تَعْدِيدِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute