للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: كِتاباً مُؤَجَّلًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَامَ مَقَامَ أَنْ يُقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ، فَالتَّقْدِيرُ كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٤] لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَتَبَ هذا التحريم عليكم ومثله: صُنْعَ اللَّهِ [النمل: ٨٨] ، ووَعَدَ اللَّهُ [الزمر: ٢٠] ، وفِطْرَتَ اللَّهِ [الروم: ٣٠] ، وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُؤَجَّلِ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآجَالِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، كَمَا

وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْقَلَمِ «اكْتُبْ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَمِيعَ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَوْ وَقَعَتْ بِخِلَافِ عِلْمِ الله لانقلب علمه جهلًا، ولا نقلب ذَلِكَ الْكِتَابُ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَكَّدَهُ بِحَدِيثِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَبِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِنْ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى»

قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْأَجَلُ وَالرِّزْقُ فَهُمَا مُضَافَانِ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ فَكُلُّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا كَتَبَ تَعَالَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ بِعِلْمِهِ مِنَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْمُومَ أَوِ الْمَمْدُوحَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْقَاضِي أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْعَبْدِ الْكُفْرَ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْهُ الْكُفْرَ، فَلَوْ أَتَى بِالْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْكَفْرِ وَالْخَبَرَ الصِّدْقَ عَنِ الْكُفْرِ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ هُوَ هَذَا فَأَنَّى يَنْفَعُهُ الْفِرَارُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكَلِمَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ.

فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا فَرِيقَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ/ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَعْدُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَالَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ لِلدُّنْيَا، هُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا لِطَلَبِ الْغَنَائِمِ وَالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْهَزِمُوا، وَالَّذِينَ حَضَرُوا لِلدِّينِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ لَا يَنْهَزِمُوا ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى بَعْضِ مَقْصُودِهِ وَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ فَكَذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْجِهَادِ خَاصَّةً، لَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي جَلْبِ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ الْمَقْصُودُ وَالدَّوَاعِي لَا ظَوَاهِرُ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَى الْأَرْضِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالشَّمْسُ قُدَّامَهُ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ السُّجُودِ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ عِبَادَةَ الشَّمْسِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ الْكُفْرِ.

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُقَاتِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ تَعَالَى: كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ مُحَارِبٌ وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِ الى النار.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٦]]

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)