للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَيُّنا نَفْسَهُ لَعَنَهُ اللَّه لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّنا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: آمَنْتُمْ لَهُ وَفِيهِ تَصَالُفٌ بِاقْتِدَارِهِ وَقَهْرِهِ وَمَا أَلِفَهُ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَاسْتِضْعَافِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْهُزْءِ بِهِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطُّ لَمْ/ يَكُنْ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِمُشَاهَدَةِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً بِتِلْكَ الْعَظَمَةِ الَّتِي شَرَحْتُمُوهَا وَذَكَرْتُمْ أَنَّهَا قَصَدَتِ ابْتِلَاعَ قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنِ اسْتَغَاثَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الثُّعْبَانِ فَمَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِذَلِكَ وَعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُهَدِّدَ السَّحَرَةَ وَيُبَالِغَ فِي وَعِيدِهِمْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ وَيَسْتَهْزِئَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ فِي قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ تِلْكَ الْجَلَادَةَ وَالْوَقَاحَةَ تَمْشِيَةً لِنَامُوسِهِ وَتَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ، وَمَنِ اسْتَقْرَى أَحْوَالَ أَهْلِ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ يَفْعَلُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عَذَابَ اللَّه أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الْبَشَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ عَالِمًا بِكَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا خَالَطَهُمُ الْبَتَّةَ وَمَا لَقِيَهُمْ وَكَانَ يَعْرِفُ مِنْ سَحَرَتِهِ أَنَّ أُسْتَاذَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ هُوَ وَكَيْفَ حَصَّلَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَثَبَتَ أَنَّ سَبِيلَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفِي آخِرِهِ شُهَدَاءَ» .

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٦]

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)

[في قوله تعالى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله خَيْرٌ وَأَبْقى] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى تَهْدِيدَ فِرْعَوْنَ لِأُولَئِكَ حَكَى جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْيَقِينِ التَّامِّ وَالْبَصِيرَةِ الْكَامِلَةِ لَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنْهُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَعَلَ بِهِمْ مَا أَوْعَدَهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ جَوَابًا لِمَا قَالَهُ وَبَيَّنُوا الْعِلَّةَ وَهِيَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَيِّنَاتٌ وَأَدِلَّةٌ، وَالَّذِي يَذْكُرُهُ فِرْعَوْنُ مَحْضُ الدُّنْيَا، وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا وَمَضَارُّهَا لَا تُعَارِضُ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ وَمَضَارَّهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِي فَطَرَنا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَنْ نُؤْثِرَكَ يَا فِرْعَوْنُ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا أَيْ وَعَلَى طَاعَةِ الَّذِي فَطَرَنَا وَعَلَى عِبَادَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا عَلَى الْقَسَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَتَى أَصَرُّوا عَلَى الْإِيمَانِ فَعَلَ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ فَقَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ لَكِنْ أَظْهَرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ لَا يُزِيلُهُمُ الْبَتَّةَ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعَمَّا عَرَفُوهُ مِنَ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، ثُمَّ بَيَّنُوا مَا لِأَجْلِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِمِ احْتِمَالُ ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا وقرئ: (نقضي هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وَوَجْهُهَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ فَاتُّسِعَ فِي الظَّرْفِ بِإِجْرَائِهِ مُجْرَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِكَ: فِي صُمْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صِيمَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَضَاءَكَ وَحُكْمَكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>