عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الْحَيَوَانَاتِ وَتَعْظِيمِ جُثَّتِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُصَغِّرُهَا مَرَّةً أُخْرَى كَمَا كَانَتْ وَهَذِهِ الْعُلُومُ الْجَلِيَّةُ مَتَى حَصَلَتْ فِي الْعَقْلِ أَفَادَتِ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَبِّرٍ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَمَاذَا يَقُولُ أَلَا تَرَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ جَهِلُوا صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ ارْتِيَابُ الْعَاقِلِ فِيهِ وَإِذًا فَقَدْ عَرَفُوا صِحَّتَهَا لَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَكَرِهُوا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ وَالسَّعَادَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَحَبُّوا تَحْصِيلَ الْجَهْلِ وَالشَّقَاوَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مَا أَرَى أَنَّ عَاقِلًا يَرْضَى بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَقْلُ وَالدَّلِيلُ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُدَبِّرٍ يَخْلُقُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فِي الْقُلُوبِ، وَيَخْلُقُ الشُّعُورَ بِكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا وَبِكَيْفِيَّةِ اسْتِنْتَاجِهَا/ لِلنَّتِيجَةِ حَتَّى إِنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ حَصَلَتِ النَّتَائِجُ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَإِنَّهُ لَا اعْتِمَادَ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ فِي مَجَارِيهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا وَمَنْ طَرَحَ التَّعَصُّبَ عَنْ قَلْبِهِ وَنَظَرَ إِلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ فِي مَجَارِي أَفْكَارِهِ وَأَنْظَارِهِ ازْدَادَ وُثُوقًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى فَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيمِيَّةَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُمْ آمَنُوا باللَّه الَّذِي عَرَفُوهُ مِنْ قِبَلِ هَارُونَ وَمُوسَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْإِمَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ بَلْ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى فَائِدَتَانِ سِوَى مَا ذَكَرُوهُ.
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: ٢٤] وَالْإِلَهِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: ٣٨] فَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقُولُ:
إِنَّهُمْ آمَنُوا بِي لَا بِغَيْرِي فَلِقَطْعِ هَذِهِ التُّهْمَةِ اخْتَارُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي رُبُوبِيَّتَهُ لِمُوسَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: ١٨] فَالْقَوْمُ لَمَّا احْتَرَزُوا عَنْ إِيهَامَاتِ فِرْعَوْنَ لَا جَرَمَ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَارُونَ عَلَى مُوسَى قَطْعًا لِهَذَا الْخَيَالِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّهُمَا بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةِ لَا جَرَمَ قَالُوا: رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاهَدَ مِنْهُمُ السُّجُودَ وَالْإِقْرَارَ خَافَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ سَائِرِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ فَفِي الْحَالِ أَلْقَى شُبْهَةً أُخْرَى فِي النَّبِيِّ فَقَالَ:
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذَا الْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شُبْهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا:
قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ غَيْرُ جَائِزٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْخَوَاطِرِ، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ فِي الْحَالِ: آمَنْتُمْ لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَكُمْ لَيْسَ عَنِ الْبَصِيرَةِ بَلْ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ يَعْنِي أَنَّكُمْ تَلَامِذَتُهُ فِي السِّحْرِ فَاصْطَلَحْتُمْ عَلَى أَنْ تُظْهِرُوا الْعَجْزَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، ثُمَّ بَعْدَ إِيرَادِ الشُّبْهَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّهْدِيدِ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَنْفِيرًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قُرِئَ لَأَقْطَعَنَّ وَلَأَصْلِبَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُضْوَيْنِ خِلَافُ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا يَدٌ وَذَاكَ رِجْلٌ وَهَذَا يَمِينٌ وَذَاكَ شِمَالٌ وَقَوْلُهُ: مِنْ خِلافٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَأُقَطِّعَنَّهَا مُخْتَلِفَاتٍ لِأَنَّهَا إِذَا خَالَفَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَقَدِ اتَّصَفَتْ بِالِاخْتِلَافِ ثُمَّ قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَشَبَّهَ تَمَكُّنَ الْمَصْلُوبِ فِي الجذع يتمكن الشَّيْءِ الْمُوعَى فِي وِعَائِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَالَّذِي يُقَالُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى فَضَعِيفٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute