للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرَاشِ كِبَارٌ، فَكَيْفَ شَبَّهَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَعًا؟ قُلْنَا: شَبَّهَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لَكِنْ فِي وَصْفَيْنِ. أَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْفَرَاشِ فَبِذَهَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا بِالْجَرَادِ فَبِالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكُونُ كِبَارًا أَوَّلًا كَالْجَرَادِ، ثُمَّ تَصِيرُ صِغَارًا كَالْفَرَاشِ بِسَبَبِ احْتِرَاقِهِمْ بِحَرِّ الشَّمْسِ، وَذَكَرُوا فِي التَّشْبِيهِ بِالْفَرَاشِ وُجُوهًا أُخْرَى أَحَدُهَا: مَا

رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ رَعَاعٌ»

فَجَعَلَهُمُ الله في الأخرى كذلك جزاء وفاقا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّشْبِيهِ، فَقَالَ:

كَالْفَراشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَذَلَّ مِنَ الْفَرَاشِ، لِأَنَّ الْفَرَاشَ لَا يُعَذَّبُ وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ، وَنَظِيرُهُ:

كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: ٤٤] .

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْعِهْنُ الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: ٩] وَالنَّفْشُ فَكُّ الصُّوفِ حَتَّى يَنْتَفِشَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ) .

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْجِبَالَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا قَالَ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: ٢٧] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَرِّقُ أَجْزَاءَهَا وَيُزِيلُ التَّأْلِيفَ وَالتَّرْكِيبَ عَنْهَا فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُشَابِهًا لِلصُّوفِ الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشا، وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا ضَمَّ بَيْنَ حَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حَالِ الْجِبَالِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ تِلْكَ الْقَرْعَةِ فِي الْجِبَالِ هُوَ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ سَمَاعِهَا! فَالْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لا بن آدَمَ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ رَحْمَةُ رَبِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جِبَالَ النَّارِ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِشِدَّةِ حُمْرَتِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى تَغَيُّرَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْجِبَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنْ تَصِيرَ قِطَعًا، كَمَا قال:

وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً «١» [الْحَاقَّةِ: ١٤] ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَصِيرَ كَثِيبًا مَهِيلًا، كَمَا قَالَ:

وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: ٨٨] ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَهِيَ أَجْزَاءٌ كَالذَّرِّ تَدْخُلُ/ مِنْ كُوَّةِ الْبَيْتِ لَا تَمَسُّهَا الْأَيْدِي، ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّابِعِ تَصِيرُ سَرَابًا، كَمَا قَالَ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النَّبَأِ: ٢٠] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَالْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ بَلْ قَالَ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قسم الناس فيه إلى قسمين فقال:

[[سورة القارعة (١٠١) : آية ٦]]

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦)

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الموازين قولين: أَنَّهُ جَمْعُ مَوْزُونٍ وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ وَزْنٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ يُقَالُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ بِمِيزَانِ دِرْهَمِكَ وَوَزْنِ دِرْهَمِكَ وَدَارِي بِمِيزَانِ دَارِكَ وَوَزْنِ دَارِكَ أَيْ بِحِذَائِهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ مِيزَانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيزَانُ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ لَا يُوزَنُ فِيهِ إِلَّا الْأَعْمَالُ فَيُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْمُطِيعِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَإِذَا رَجَحَ فَالْجَنَّةُ لَهُ وَيُؤْتَى بِسَيِّئَاتِ الْكَافِرِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيَخِفُّ وَزْنُهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْمِيزَانِ لَهُ كِفَّتَانِ وَلَا يُوصَفُ، قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّ نفس الحسنات والسيئات لا يصح


(١) في تفسير الرازي المطبوع (ودكت الجبال دكا) وهي ليست بآية، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لمقصود المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>