يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كَانَ جَوَابَ سُؤَالِهِ مِنْهُمْ.
[[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٢]]
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْحِكَايَةُ بِعَيْنِهَا هِيَ الْمَحْكِيَّةُ في هود، وهناك قالوا إِنَّا أُرْسِلْنا [هود: ٧٠] بعد ما زَالَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَبَشَّرُوهُ، وَهُنَا قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا بعد ما سَأَلَهُمْ عَنِ الْخَطْبِ، وَأَيْضًا قَالُوا هُنَاكَ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٠] وقالوا هاهنا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَالْحِكَايَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَرَدَ السُّؤَالُ أَيْضًا، فَنَقُولُ إِذًا قَالَ قَائِلٌ حَاكِيًا عَنْ زَيْدٍ: قَالَ زَيْدٌ عَمْرٌو خَرَجَ، ثُمَّ يَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى:
قَالَ زَيْدٌ إِنْ بَكْرًا خَرَجَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْ زَيْدٍ قَوْلَانِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَاكِيًا مَا قَالَهُ زَيْدٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا خَافَ جَازَ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا لَهُ لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ مَاذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ، كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لِنُهْلِكَهُمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَيُقَالُ لِمَاذَا خَرَجْتَ؟ فَيَقُولُ خَرَجْتُ لِأَتَّجِرَ، لكن هاهنا فَائِدَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا فِي جواب ما خَطْبُكُمْ نُهْلِكُهُمْ؟
بِأَمْرِ اللَّهِ، لِتُعْلَمَ بَرَاءَتُهُمْ عَنْ إِيلَامِ الْبَرِيءِ، وَإِهْمَالِ الرَّدِيءِ فَأَعَادُوا لَفْظَ الْإِرْسَالِ، وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: نَقُولُ الْحِكَايَةُ قَدْ تَكُونُ حِكَايَةَ اللَّفْظِ، كَمَا تَقُولُ: قَالَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو مَرَرْتُ، فَيَحْكِي لَفْظَهُ الْمَحْكِيَّ، وَقَدْ يَكُونُ حِكَايَةً لِكَلَامِهِ بِمَعْنَاهُ تَقُولُ: زَيْدٌ قَالَ عَمْرٌو خَرَجَ، وَلَكَ أَنَّ تُبَدِّلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحِكَايَةِ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى، فَتَقُولُ لَمَّا قَالَ زَيْدٌ بَكْرٌ خَرَجَ، قُلْتُ كَيْتَ وَكَيْتَ، كَذَلِكَ هاهنا الْقُرْآنُ لَفْظٌ مُعْجِزٌ، وَمَا صَدَرَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَوَاءً كَانَ مِنْهُمْ، وَسَوَاءً كَانَ مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُعْجِزًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْحِكَايَاتُ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَقَالُوا/ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ مَنْ آمَنَ بِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْكِي لَفْظَهُمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا، بَلْ يَحْكِي كَلَامَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَلَهُ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى لَفْظَهُمْ فِي السَّلَامِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي التَّفْسِيرِ، قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: سَلَامًا وَسَلَامٌ ثُمَّ بَيَّنَ مَا لِأَجْلِهِ أُرْسِلُوا بقوله:
[[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٣]]
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
وَقَدْ فَسَّرْنَا ذَلِكَ فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَقُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ عَلَى اللَّائِطِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيُّ حَاجَةٍ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ كَانَ يَقْلِبُ الْمَدَائِنَ بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ؟ نَقُولُ الْمَلِكُ الْقَادِرُ قَدْ يَأْمُرُ الْحَقِيرَ بِإِهْلَاكِ الرَّجُلِ الْخَطِيرِ، وَيَأْمُرُ الرَّجُلَ الْخَطِيرَ بِخِدْمَةِ الشَّخْصِ الْحَقِيرِ، إِظْهَارًا لِنَفَاذِ أَمْرِهِ، فَحَيْثُ أَهْلَكَ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ بِالْقُمَّلِ وَالْجَرَادِ وَالْبَعُوضِ بَلْ بِالرِّيحِ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ، كَانَ أَظْهَرَ في القدرة وحيث أمر آلاف مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِهْلَاكِ أَهْلِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّتِهِمْ كَانَ أَظْهَرَ فِي نَفَاذِ الْأَمْرِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ مَنْ يَكُونُ تَحْتَ طَاعَةِ مَلِكٍ عَظِيمٍ، وَيَظْهَرُ لَهُ عَدُوٌّ وَيَسْتَعِينُ بِالْمَلِكِ فَيُعِينُهُ بِأَكَابِرِ عَسْكَرِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا مِنْهُ لَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَرَ وَالْمَدَدُ أَوْفَرَ كَانَ التَّعْظِيمُ أَتَمَّ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَ لُوطًا بِعَشْرَةٍ وَنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ ذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ [يس: ٢٨] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute